لا يوجــد في كل الشرائع والأعراف ما يعفي العرب من تقديم الواجب الشرعي والقومي والتاريخي تجاه المأساة الكبرى في سوريا.كل ما قدموه حتى الآن يدور حول تحميل الجريمة للقاتل ومطالبة الضمير العالمي بالتدخل مع استمرار الصمت المخجل عن جوهر المأساة. الجوهر المسكوت عنه هو التخاذل عن الفعل في انتظار تدخل القوى الغربية بتفويض من مجلس الأمن لإنقاذ الدماء والأعراض من الفئة الباغية. النص القرآني الصريح يأمر بقتال الفئة الباغية حين يتعذر الإصلاح، والإصلاح في سوريا من أضغاث الأحلام. تدخل الغرب بتفويض من مجلس الأمن سوف يأتي فذلك أمر محسوم، ولكن ليس قبل أن تنضج التفاحة السورية وتصبح مهيأة للتقطيع والاقتسام مثلما حصل للتفاحة العراقية.
صراخ العرب يصم الآذان، وكله يدور حول اتهام أمريكا والغرب بالتراخي والتسويف في التدخل، واتهام إيران وروسيا والصين بالتواطؤ مع القتلة. المعنى المبطن لهذا هو أن العرب كمجموعة هائلة من الحكومات والجيوش والأموال والبشر تريد أن تبقي نفسها خارج المسؤولية حيال ما يحدث في سوريا. هذا الكيان العربي الهائل المحيط بسوريا ليس مستعدا حتى للاعتراف بأن سوريا التي تنتمي إليه بشعبها وتاريخها ودينها تفرض عليه واجب الظهور أمام العالم بموقف شرعي قومي إنساني موحد لإنقاذ الأطفال من الذبح والنساء من الاغتصاب ودور العبادة والمساكن من التهديم على رؤوس الناس. ليس أسوأ من التهرب من استحقاقات المسؤولية الشرعية والقومية والتاريخية سوى الصمت الجماعي حتى عن الاعتذار الصريح أمام الله بقلة الحيلة والعجز عن الفعل مثل الأمم الأكثر قدرة على الأفعال والأقل قدرة على الكلام.
مراقبة الإطار الذي تتحرك فيه الاستراتيجية الغربية (مع إسرائيل في تركيبتها العضوية) تجعل من المفهوم والمنطقي ألا يحس المخطط السياسي الغربي والإسرائيلي بوخزات ضمير مؤرقة لما يحدث في سوريا. العكس هو الصحيح، والمفترض أن تشعر التطلعات الغربية ذات النفس الاستراتيجي الطويل بالارتياح لأن ما يجري امتداد لما تم إنجازه في العراق، ويتماشى مع سياق التفكيك ثم إعادة التركيب التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس كثيرا في زياراتها المتكررة للشرق الأوسط، ولأنه يسير أيضا في سياق الترويج لتقبل الصورة عن الوحش الخرافي الذي اختلقوه ونفخوا فيه وزرعوه في صراع الحضارات، بينما هو في الحقيقة مجرد فكر انفعالي لا حول له ولا قوة سوى القيام ببعض التشنجات الإرهابية العصبية هنا وهناك، وأكثرها حدث هنا وليس هناك. باختصار، الانتظار حتى تكتمل المأساة بتفتيت سوريا إلى مقاطعات تتوسل الغرب للتدخل هو من صميم المصالح الإسرائيلية والغربية.
ماذا عن إيران وموقفها من المأساة في سوريا؟. النظام الإيراني كيان سياسي عنصري في تركيبته الدستورية والإدارية مهما زعم الدفاع عن الإسلام والمسلمين، تماما مثل النظام السوري. إيران هذه لبست ثوبا تمويهيا فوق ثوبها القومي الأصلي وتسللت إلى قلوب العرب عن طريق أداء المقاومة اللبنانية المتميز ضد الطغيان الإسرائيلي، وتأييدها للمقاومة الفلسطينية علنا بينما الحكومات العربية تتهرب من الإفصاح، وعن طريق الحملات الإعلامية الذكية مستغلة احتقان المواطن العربي ضد أوضاعه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لكن وكالعادة لابد للكاذب مهما كان ذكيا أن ينكشف، وحصل ذلك أولا في العراق أثناء وبعد الغزو الغربي، ثم من خلال أحداث اليمن والبحرين، ثم وبصورة أشد قبحا ووضوحا من خلال التصاقها الإجرامي بالنظام السفاك في سوريا. إيران أيضا تلعب لعبتها القومية الإستراتيجية ببعض البيادق العربية مثلما تفعل القوى الأخرى. صراخها هنا وسكوتها هناك يتناقض مع أية مصداقية دينية أو إنسانية. إيران مشارك فاعل في المأساة السورية عن عمد وسبق إصرار لأن ذلك يدخل في صميم مصالحها القومية، لكن على المغفلين الملعوب بهم من العرب أن يتنبهوا لذلك جيدا اتجاه إيران وكل القوى الأخرى.
الموقف الروسي والصيني يسهل فهمه، إذ لا أواصر دينية ولا إنسانية ولا وشائج قربى تربط الدولتين بالمنطقة، فالموضوع لهما مجرد جزء من الصراع بين القوى الكبرى لتقاسم الأقليات والكيانات الصغيرة ومناطق النفوذ. في المحصلة النهائية كل طرف يلعب لمصلحته القومية بالأساس ماعدا العرب فإنهم ملعوب بهم ضد مصالحهم بالجملة والتفصيل. العرب ينتظرون الفرج من الشرق والغرب، بينما هم يغوصون في مأزق قومي إنساني وأخلاقي وشرعي، ولا يفكرون حتى في التباحث حول عمل جماعي يتشاركون في تحمل مسؤولياته.