يتناول الحديث في هذه الحلقة من المقالة شيئاً مما حدث لسوريا؛ وهي الجزء الأكبر من بلاد الشام المُكوِّنة للشطر الآخر مما كان يُسمَّى الهلال الخصيب. وكانت بلاد الشام بمفهوم الشام الواسع مقصداً لأهل وسط الجزيرة العربية؛ بادية وحاضرة.
ومن قبائل البادية فئات قصدتها واستوطنتها، ومن الحاضرة من كانوا يسافرون إليها للعمل أو الاتِّجار. وهكذا كانت كالعراق خصيبة خيراتها وارفة الظلال على أهلها والقاصدين لها. ثم ابتليت بالاستعمار الفرنسي، وقاومه أهلها مقاومة عظيمة سَجَّلتها وأشادت بها كلمات شعراء كبار من أهلها ومن غيرهم. فكان مما قال الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة:
نحن من ضعف بنينا قُوَّةً
لم تَلِنْ للمارج المُلتهبِ
كم لنا من ميسلونٍ نفضت
عن جناحيها غُبَار التَّعبِ
كم نبت أسيافنا في ملعب
وكبت أجيادنا في ملعبِ
من نِضالٍ عاثرٍ مُصطخبٍ
لِنضال عاثرٍ مُصطخبِ
شَرف الوثبة أن ترضى العُلا
غلب الواثب أم لم يغلب
وكان أن قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
دَمُ الثوَّار تعرفه فرنسا
وتَعلم أنه نور وحَقُّ
جرى في أرضها فيه حَياةٌ
كَمُنهَلِّ السماء وفيه رِزقُ
بلاد مات فتيتها لتحيا
وزالوا دون قومهمُ لِيبقُوا
ومنها؛ مخاطباً السوريين:
وَقَفتم بين موتٍ أو حَياةٍ
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقُوا
ولِلأوطان في دَمِ كُلِّ حُرٍّ
يَدٌ سلفت ودينٌ مُستحقُ
ولِلحُرِّيُة الحمراء بَابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ
وكنت قد عَبَّرت عن مجد دمشق ونضال السوريين بقولي:
دِمشق يا أَلَقَ التاريخ هأنذا
قِدَمتُ إذ لوَّحت لي منك أَردانُ
قِدَمتُ أَلثم مجداً شاده نُجُبٌ
بِهِم تَشرَّف مَروانٌ وسفيان
وأَجتلي فَيلقاً يمضي فَتتبعُه
فَيالقٌ شاقها للنصر ميدان
أنتِ الحضارة إشعاعاً ومنطلقاً
وأَنتِ منبت أَمجادٍ وبستان
قَد قَال فيك أَمير الشعرِ قَولَتَه
وفي حِماكِ على ما قال برهان
“ لولا دمشق لما كانت طُلَيطةٌ
ولا زَهتْ ببني العَبَّاس بغدان”
وأنت يا قَلعةَ الأحرار أُغنيةٌ
في ميسلون لها وَقْعٌ وألحان
دَمُ الشهيدِ رَواها نَخوةً وفِدىً
والترب تفديه أَرواحٌ وأبدان
أما بعد:
فمن ذا الذي كان من أبناء جيلي يظن أنّ سوريا ستصير إلى ما صارت إليه الآن؟ الوضع في سوريا وصل إلى درجة من البشاعة يصعب على المرء أن يَتصوَّرها؛ إذ لم يسلم من المجازر الفظيعة المرتكبة بأيدي المجرمين حتى الأطفال الرُّضَّع. وكنت قد قلت في مقالة نُشِرت في الجزيرة بتاريخ 3-8-1432هـ عند بداية الهَبَّة الشعبية هناك:
“إنّ الوضع في سوريا وضع مستحكم العُقد؛ داخلياً وخارجياً. فعلى المستوى الداخلي هناك تَفرُّد في الحكم على أساس حزبي ينظر إليه بعض الشعب، أو أكثرية الشعب، على أنه لم يَعُد حزبياً فحسب؛ بل أصبح، أيضاً، طائفياً مُؤيَّداً كُلَّ التأييد من دولة ذات علاقة غير وُدِّية مع العرب - على العموم -؛ ماضياً وحاضراً. وعلى المستوى الخارجي هناك اهتمام لا مناص عنه لدى إيران، التي أصبح لها النفوذ الواضح الجَليُّ في تسيير دَفَّة الأمور في العراق المجاورة لسوريا، ولدى أمريكا، التي يَهمُّها - بالدرجة الأولى - ما يَهمُّ الكيان الصهيوني المحتل لجزءٍ من الأراضي السورية؛ إضافة إلى فلسطين. وكُلٌّ من قادة أمريكا المتصهينة وهذا الكيان الصهيوني يَهمُّهما أن يبقى الوضع في المنطقة على ما هو عليه؛ وبخاصة أنّ تهويد فلسطين - بما فيها القدس - يسير على قدم وساق”.
ومسألة التفرُّد بالحكم في سوريا على أساس حزبي، أو طائفي، من المسائل المُهمَّة، التي تناولها بدراسة جيدة نيقو لاوس فان دام في كتابه الصراع على السلطة في سوريا. وقد كتبت قراءة له نُشِرت في جريدة الجزيرة في ثلاث حلقات أسبوعية أولاها بتاريخ 8-2-1433هـ. ومما أوضحه تشكيل الفرنسيين إبَّان احتلالهم لسوريا قوات خاصة من الأَقلِّيات الدينية والعرقية، مما مَهَّد لأفرادها - فيما بعد - التغلغل في الجيش السوري بعد الاستقلال، بحيث أصبح ما لا يَقلُّ عن 65% من ضباط الصف في الجيش بين عاميْ 1946 و1958م من العلويين، وأصبح هؤلاء عندما يصلون إلى مراكز قيادية يستدعون أقاربهم وآخرين من طائفتهم ويساعدونهم في الالتحاق بالكليات العسكرية. وبعد عام من انفصال الوحدة بين سوريا ومصر، عام 1961م، أصبح القائد الأعلى للقوات المُسلَّحة السورية درزياً، وبُدِّل معظم الضباط السُّنة بآخرين من الأَقلِّيات، وبُدِّل نصف المُسرَّحين البالغ عددهم 700 ضابط سُنِّي بعلويين، وأصبح العلوي صلاح جديد رئيس أركان الجيش وحافظ الأسد قائداً للقوات الجوية.
أما مسألة اهتمام أمريكا والكيان الصهيوني ببقاء الوضع في المنطقة، فقد ذكرت وسائل الإعلام أنّ مؤتمراً عُقِد مُؤخَّراً في أوروبا، وقال فيه مندوب ذلك الكيان: إنّ المسؤولين السياسيين في الكيان طلبوا من أجهزة الاستخبارات لديهم، عندما بدأت الهَبَّة السورية المشار إليها سابقاً، أن يدرسوا الوضع كي يُتَّخذ الموقف المناسب. فكان أن درست تلك الأجهزة الوضع دراسة تَوصَّلت إلى أنه لا مصلحة لدولتهم من تَغيُّر النظام، أو تغييره، في سوريا. وإذا كان الأمر كذلك - وإنْ أظهر خلاف ما ذكر من أظهر من زعماء الصهاينة - فإنّ أمريكا لن تَتَّخذ موقفاً لا يرى فيه أولئك مصلحة لهم.
وإذا كانت أمريكا غير راغبة في اتِّخاذ موقف جاد ضد الحكومة السورية فإنّ مجلس الأمن، الذي هي المُتحكِّمة فعلياً فيه، لن يَتَّخذ موقفاً مختلفاً جوهرياً عن الموقف الذي اتَّخذه، والذي هو في حقيقته أن تستمر عجلة الفظائع المرتكبة في سيرها، وأن يستمر تدمير سوريا تدميراً يصعب تَصوُّر مداه.
ولقد كتبت مقالة نُشِرت في الجزيرة بتاريخ 15-9-1432هـ عنوانها: “ويلي عليها وويلي من مصيبتها”. وكان مما قلته فيها بعد ذكر مشاعري تجاه بلاد الشام: “ كم هي شديدة الثِّقَل وطأة الألم على نفس من قرأ تاريخ سوريا المجيد؛ إشعاع حضارة عربية أصيلة، ومنطلق دولة إسلامية امتدت رقعتها إلى الصين شرقاً وإلى بلاد الغال في فرنسا غرباً. وعرفها، في العصر الحديث؛ قلباً عروبياً كان من عظماء رجاله وأفذاذهم الكواكبي والعَظْمة والقَسَّام. ويا للألم شِدَّة وطأة وفداحةَ وَجَع والمرء يرى البطش الأعمى الفظيع يُرتكَب فوق ربوع ذلك الوطن دون مراعاة لحق الإنسان وكرامته؛ ذكراً وأنثى، شيخاً وطفلاً، ويشاهد التهديم جنونياً لا يُوفِّر في غَيِّه حتى بيوت الله. وكم هو مُؤلم ومُفجع أن يرى المرء منارة أحد المساجد في دير الزور تَتحطَّم وتهوى بنيران جيش يُفترَض أن يكون حامي العباد والبلاد. وكم هو مثير للاشمئزاز أن يرى المرء أفراداً من ذلك الجيش فوق العربات العسكرية يرفعون أصابعهم علامة للانتصار بعد أن ارتكبوا ما ارتكبوا من تدمير إحدى البلدات السورية؛ وكأنهم قد انتصروا على أعداء أُمَّتنا من الصهاينة في فلسطين أو في الجولان، التي ترزح تحت نير احتلال أولئك الأعداء منذ عام 1967م”.
أبعد ما حدث - ويحدث - في سوريا من جرائم فظيعة مرتكبة يمكن أن يُنظَر إليها شطراً مما كان يُسمَّى الهلال الخصيب بما يوحي به هذا التعبير من رخاء ورغد معيشة؟