في أداء أسطوري مهيب ظل ردحاً طويلاً في مخيلة الأجيال العربية، يصرخ دريد لحام في مسرحيته (كأسك يا وطن) «نحن بخير يا أبي، ما ناقصنا غير شويه كرامة!». اليوم ومع تعاظم الحراك الثوري السوري الذي يهتف بحناجر تشبه الصخر «الشعب السوري ما بينذل» أعلن دريد لحام في أداء أسطوري آخر وقوفه بقوة مع النظام ضد الثورة ناسياً تاريخه الفني في نقد استبداد بعض الأنظمة العربية، ومنها النظام السوري الذي يُعَدّ من أعتى وأشرس وأبشع الأنظمة العربية وأكثرها ظلماً وجوراً وجبروتاً. لقد أحدث دريد لحام انقلاباً نوعياً على صعيد أعماله النقدية، وانسل من منهجه الذي اختطه لنفسه بتحولية عجيبة. لقد كان (دريد) يحظى بالهيبة والوقار والاحترام والحصانة من قِبل عامة الجمهور، لكنه صار الآن محط انتقاد وسخرية وقذف الآخرين بكل تنوعاتهم ومشاربهم. لقد هاجموه بكل شراسة غير متوقعة، واهتزت صورته، حتى بدأت تذوب وتتلاشى. لقد كشف مخاض الثورة السورية الأبية مدى ارتباطه القوي مع السلطة، ووقوفه بجانبها وبعمالته المزدوجة، وانفضح أمره وبان سلوكه المناوئ للشعب البعيد عن تطلعاته وآماله في الخلاص من الاستبداد والقهر والعبودية. لقد سقط (دريد)، وأخذ يتداعى بقوة كنظامه الذي عاش ونما في ظله. لقد غمرنا طويلاً بالوهم في سابق أعماله الفنية ومسرحياته، حين تعامل مع الوضع العربي باستخفاف وسخرية، وجعل من الأنظمة العربية موضع تندره وقهقهاته العالية وفق مفارقات كامنة في الأداء والسلوك، حتى عرفنا بعد حين أن الظاهر لا يشبه الماهر؛ لأن الظاهر مكشوف، والماهر يعرف كيف يخفي نفسه. لقد أدركنا الآن ما كنا نعيشه، حتى أن الحقيقة أصبحت أمامنا عارية، وانكشفت حقيقة الفنانين الكثر، ومنهم (دريد لحام)، الذين كانوا يرهنوننا بواقع الحال، الذي شبهوه لنا بفوهة البندقية أو بشظية الرصاص أو بالشيء الهلامي أو كالرخو الذي يشبه الإسفنجة. لقد كانوا يخادعوننا، ويحاولون إصابتنا بالعمى ببكائياتهم ودموعهم التي تشبه دموع التماسيح. لقد أخضعونا برمتنا لسيكولوجية العاطفة، وانتظار الآتي، والآمال التي خشيت هاجس المداهمة لعقولنا وقلوبنا اللينة. لقد أهالوا علينا هواجس النصوص الكثيرة، وحدثونا برؤى العرافين، ولونونا بعطر الرواية وقواميس الحوار، وحاولوا سرقة أرواحنا من أحلامها الوردية، وأركبونا مع ابن بطوطة وماركو بولو والسندباد والبحارة، بثقل وركاكة خواطر وصوت جرس عتيق، وبعدها لم ند منهم سوى بكاء العصافير والهروب تحت ظل الشجرة العاتية العتيقة. أتذكر كيف أبهجونا طويلاً بالمسرحيات والدراما، وكيف قفزوا في عقولنا بشهوة عجيبة، ومن ثم تخلوا عنا كما تتخلى أوراق الخريف عن أشجارها. الآن لقد نضجت الرؤى في عقولنا، وتخمرت، وكبر حجمها، وامتلكنا المشهد بسعة البحر، ذلك عندما عرفنا نحن بذواتنا المحضة كيف ننير دفاتر الإملاء ببهجة الحروف، ونكتبها بعناية كما يكتب سقراط هواجس الحلم الإغريقي. إن أفعالهم في مجملها خدرتنا طويلاً بخدر الروايات الباهتة، حتى انهدلت أرواحنا باليأس والقنوط، وامتلأت بالنحيب والنعوش وهاجس الخيبة، لكن الصباح انبلج، وظهر النهار الذي حاولوا هؤلاء طويلاً إخفاءه في معاطفهم الثقيلة، وفاحت رائحة العطر النقي الذي حاولوا خلطه جيداً برائحة البارود، وبانت حقائقهم بتجلٍّ ووضوح، ولا عدنا ننتبه لهم.
ramadanalanezi@hotmail.com