|
متابعة - بندر الرشودي:
« لو لم يكن للملك المؤسس -طيب الله ثراه- حسنة على الأمة الإسلامية إلا توحيد الإمامة في الصلاة لكفاه»..
بهذه العبارة طرز صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز -نائب أمير منطقة القصيم- محاضرته الثرية التي ألقاها عبر منبر جامعة شقراء تحت عنوان (المُرتَكَزُ الإسلاميّ للأنظمةِ السعودية), مؤكداً أن خطوة توحيد الإمامة في الصلاة خلف إمام واحد في الحرم المكي والحرم النبوي بعدما كان الفرض الواحد يقام لأكثر من مرة لجميع المذاهب خلف العديد من الأئمة, تعد عملاً جباراً وخطوة تكشف مدى بعد نظر الملك عبدالعزيز ورغبته الصادقة في توحيد صفوف المسلمين والتي توجت بتوفيق الله عز وجل لمساعيه سائلاً الله العلي القدير أن يكتب ذلك في ميزان حسناته.
وقال سموه في المحاضرة التي تنشر (الجزيرة) مضامينها القيمة:
تعتبُر الأسرةُ هي النَّواةُ الأولىَ للمجتمعاتِ الإنسانية، انطلقت منها الشعوبُ، وتكونت منها الدولُ والأقطارُ، التي تَرْتبطُ فيما بينهما برابطِ اللغةِ أو الدينِ أو الأعرافِ.
وقد امتزجت هذه الشعوبُ فيما بينها، وتوطدتِ العَلاقةُ عن طريقِ المصاهرةِ والأحلاف، ثم تطور الأمرُ حتى تكونت الإمبراطورياتُ الكُبرى التي جعلت من هذه التجمعاتِ دُولاً عظمى، ومن المعلومِ أن أَيّةَ تجمُعاتٍ لا بد لها من أحكامٍ وأعرافٍ تحكُمها، وهذا ما حصل، فقد حُكمت تلك التجمعاتُ منذُ البدايةِ من الأُسرةِ وصولاً بالإمبراطوريات التي حكمتها أعرافٌ وأحكامٌ اصطلحوا عليها فيما بينهم، تَتّصِفُ تلك الأحكامُ بصفاتٍ كُبرى، منها: أنها مُلزمة للجميعِ، لا يجوزُ الخروجُ عنها وعن قواعدِها العامة، ومن خرج عنها فإنه يستحقُ الجزاءَ، بل الجزاء الرادعَ المانعَ لغيرِهِ من الخروجِ عليها، وهذه الأحكامُ والأعرافُ شبيهةٌ بالقواعِد النظاميةِ في عصرِنا الحاضر.
وكان المجتمعُ العربيُّ، ضمنَ هذه التكويناتِ الاجتماعيةِ وفي إطارها، تحكمُهُ أحكامٌ وأعرافٌ، تطورت تلك الأعرافُ في المجتمعِ العربي ابتداءً من الأسرة مرورًا بالقبيلةِ ثم مجموعةِ القبائلِ تصطبِِغُ أحكامُها بصبغةِ الإرث الحضاري والثقافي لكل أسرةٍ وقبيلة، ولو أردنا أن نعودَ إلى الوراء في تاريخ البشرية لوجدنا أن التجمعاتِ الإنسانيةِ كان لها من القواعدِ والضوابطِ التي تحكمُها الشيء الكثيرُ، وهذه القواعدُ والضوابطُ كما تقدم تنبُعُ من التراثِ الحضاري والثقافي.
وأضاف سموه قائلاً: وقد شُرفت بعضُ تلك التجمعاتِ بالوحي الإلهيِّ الذي نظَّم علاقتَها منذُ عهدِ آدمَ عليه السلامُ، مرورًا بأنبياءِ الله عز وجل واحدًا تلو الآخر، وهي تختلفُ باختلافِ الأعرافِ والأقوامِ والمجتمعات، وبطبيعةِ الحال استشعر الناسُ أهمية النظامِ ورأَوْا أنه ضرورةٌ إنسانيةٌ تدورُ وجودًا وعدمًا معَ وجودِ التجمعِ البشري.
ومن المهمِ القولُ: إن العربَ لما كانوا أمةً أميةً لا تكتبُ ولا تُعَنى بالتدوين لم تَبْلُغنَا كل تلك الأنظمةِ والتنظيماتِ التي سَنُّوها، مع أن جملةً منها كانت على مستوًى عالٍ من الرقيَّ والتحضر، ولهذا أقر الإسلامُ قدرًا كبيرًا منها، بخلافِ الرومانِ مثلاً، فقد دَوَّنوا وكتبوا قوانينَهم، كما في قانونِ الألواحِ الاثني عشر، وهذا سهّل على الباحثينَ دراسةَ هذه التشريعاتِ والأنظمة وعُرف منها الاتجاهاتُ الفكريةُ والفلسفيةُ في تكوينِ الأنظمة.
ثُمَّ لما بعثَ اللهُ نبيَّه محمدًّا -صلى الله عليه وسلم- بالدين القويم المبني على العلم والرحمة نظَّم الله تعالى بشريعته البشر في معاشهم ومعادهم، وهذا التنظيم مبنىٌّ على العدل التام، قال الله تعالى: ( وتمت كلمةُ رَبِّكَ صدْقا وعدلا)، ولأن هذه الحضارةَ جاءت من لدن حكيم عليم فقد كانت فتحًا عظيمًا وولادة فجرٍ جديد لتنظيمٍ وحضارةٍ عظيمة فاقت ما سبقها من حضارات وتنظيمات وقد اكتسبت هذه الحضارةُ المباركةُ هذه المنزلةَ لأمور منها: أنها صالحة لكل زمان ومكان وذلك لسلامتها من التحريف والتغيير وحفظها من النقص والزيادة، ولأنها جاءت من لدُن حكيم عليمٍ عالمٍ بحالِ الناس وما يَصْلُح لهم وُيصْلِحُهم.
وقد اشتملت أصولُ هذه الحضارةِ على قواعدَ كبرى منها ما هو منصوص عليه ومنها ما هو غير منصوصٍ عليه وترجع إلى نظر الفقهاء والعلماء.
ومن َثًّم توجهت عنايةُ علماء الشريعة إلى تدوينِها واستنباطِها وضربوا لها كَمًّا كبيرًا من الفروع الفقهية وهي قواعدُ عامةٌ شاملةٌ استطاعت أن تستوعب كلَّ جديد.
وَلِيُعْلَمَ أن هذه القواعدَ كما تقدم على نوعينِ: قواعدُ شرعيةٌ ثابتةٌ لا يمكن أن تتغيرَ، وقواعدُ مرنةٌ متغيرة خاضعةٌ لظروفِ المكلفينَ وأحوالِهِم. وإذا كانت مرنةً متغيرةً فإنه ليس هناك شرع ما يمنعُ من تنظيمِها ووضعها في مواد، وهذا ما فعله واضعو مجلةِ الأحكامِ العدليةِ وغيرُهم، وكانَ من جميلِ ما تضمنه الفقهُ الإسلاميُّ ما يسمى بالسياسةِ الشرعية وهو: (علمٌ يُبْحَثُ فيه عن الأحكام والنظمِ التي تُدَبَّر بها شؤونُ الدولةِ الإسلامية، والتي لم يَرِد فيها نصٌّ أو التي مِنْ شَأنِها التغيُّرُ والتبدلُ بما يُحقّقُ مصلحةَ الأمةِ ويتفقُ مع أحكامِ الشريعةِ وأصولهِا العامة).
هذا وقد نشأت المجتمعاتُ الإنسانيةُ وتكونت بَذْرتُها الأولى من خلال الأُسرةِ التي هي نَواةُ المجتمع، ثم تناسلتِ الأُسَرُ فكونت مجتمعاتٍ عُرفت فيما بعدُ بمصطلحِ «الشعوب» هذه الشعوبُ أخذت في الزيادة إلى أن كّونت تجمعاتٍ ودُول وأقطار.
وقد حكم تلك التجمُعاتٍ بِدءًا من تكوينها الأولِ سواءً الأسريُّ أو القَبَلِي، إلى أن بلغت ذروةَ الوَحْدة أعرافٌ وأحكامٌ اصطلحوا فيما بينهم عليها، وكانت مُلزِمَةً للكافة، ولا يملك الأفرادُ الخروجَ عن قواعدها العامة، ثم توسع الأمرُ فأصبح بين القبائل بعضِها وبعض قواعدُ ناظمةٌ تحكمها ولا يجرؤون على تخطيها، تحسُّبًا من بطش الجزاءِ الذي اصطلحوا عليه، وأصبح هناك العديدُ من التنظيمات التي اصطلح عليها الكثيرُ من التجمعات الإنسانيةِ، التي شَكّلت فيما بعد أُطرًا نظاميةً لعلاقاتِهم الإنسانية، ومن ثَمَّ أصبح النظامُ ضرورةً إنسانيةً تدورُ وجودًا وعدما مع وجودِ التجمعِ البشري الذي يَنتُجُ عن تعاملاتِ أفرادِه الكثيرُ من النزاعاتِ التي تحتاجُ إلى ضابطٍ ورابطٍ. إذ لو تُرِكَ المجالُ للنزعاتِ الفرديةِ لأصبح الأمرُ ضِمْنَ مفهومِ الثأرِ الشخصيَّ وصار الأمرُ إلى مبدأ القوة تُنشِئُ الحقَّ وتحميه، وعَلَت النزعاتُ الفردية، وانهارت القيمُ الإنسانيةُ في المجتمعات.
ومع بزوغِ فجْرِ الحضارةِ العالميةِ التي فَجَّرها الدينُ الحنيفُ الذي نَظَّم شؤونَ البشرِ في معاشِهم ومعادهم، كان فجرًا جديدًا لحضارةٍ وتنظيم، بلغ بها ما لم تبلُغْهُ كافَّةُ الحضاراتِ الغربية، واتسمت قواعدُه بالصلاحية لكل زمانٍ ومكان، فلم تنل قواعده الركينة تحريفٌ أو تغييرٌ وِفقَ الأهواءِ والنزعاتِ والمصالح، وحازت هذه القواعدُ بهذه الميزةِ الرصينةِ، نظراً لما تحويه قواعدُه من قواعدَ ثابتة لا تتغيرُ باختلافِ المكانِ ولا الزمانِ ولا الأشخاصِ، وقواعدَ أخرى ترك لنا الشارعُ عزَّ وجلَّ مِيزَة تطويعِها وِفقَ مصالح العباد دُونَ الخروجِ عن الإطارِ العامِ للقواعدِ الكليةِ التي جاءتِ الشريعةُ بها.
ورغمَ ذَلكَ فَإنُّه ما زال الكثيرُ من العامةِ والمبتدئينَ يخلِطُ بين أمرينِ في غايةِ الدقة، هُما القواعُد الشرعيةُ الثابتةُ بتغير الأزمنةِ والأمكنةِ والأشخاص، والقواعدُ المرنةُ التي جاءت بها الشريعةُ لتعالجَ الأوضاعَ المستجِدَّةَ والنوازلَ، فجعل البعضُ يصفُ الثانيةَ بالمحّرمة إن تمّ تنظيمُها ووضعُها في قاَلبٍ نظامِيًّ (قانون)، مستندًا إلى أن الشريعةَ لم تعترفْ لغيرِ قواعدِها بالتحكيمِ أو الاحتكام، وتوسعوا في الأمرِ مغالاةً وأنكروا فكرةَ ما سُنَّ لضابطِ المصلحة، وتمسكوا بالقواعدِ الكليةِ التي لا نُنْكرُ عليهم الحقَّ في التمسك بها، فّإذا قيلَ برجمِ الزاني المُحْصَن، وقتلِ القاتل، وجلدِ الزاني غيرِ المحُصن، وقطعِ يدِ السارق، قلنا: صحيحٌ طالما كان الفعلُ متوافرًا فيه شروطُ الجزاءِ المرعِيَّ، ولكن إذا قلنا بنظامٍ يحكمُ مثلاً توزيعَ الأراضي باعتبار ضرورةِ حاجةِ الناسِ إليها لإقامةِ مساكنَ لهم، ورُوعي في هذا النظام القواعدُ العامةُ التي يقضي بها الفقهُ الإسلاميُّ فما الإشكال إذن؟!.
لقد حوت الشريعةُ الإسلاميةُ في بطونِها كنوزَ الحِكم والأنظِمة كافةً، لكن عَىَّ بعض المُنقِّبِين عن تَلمُُّسِ أسرارِها، وتضمنتِ الشريعةُ الغراءُ قواعدَ الفقه الإسلامي، فكان الفقُه أكثرَ تفصيلاً من الشريعة، وتضمنَ الفقهُ الإسلاميُّ فرعًا أدقَّ هو السياسةُ الشرعيةُ التي عَرَّفها البعض بمعنًى خاصٍّ: ( كُلُّ ما صدَرَ عن وَلِيِّ الأمرِ من أحكامٍ وإجراءاتٍ، منُوطةٍ بالمصلحةِ فيما لم يرِد بشأنه دليلٌُ خاصٌّ مُتعيَّنٌ، دونَ مخالفةٍ للشريعة).
وقال شيخ الإسلاِم ابنُ تيمية: ( وِلايةُ أمرِ الناسِ من أعظمِ واجباتِ الدين، بل لا قيامَ للدين إلا بها، لأن بني آدمَ لا تتِمُّ مصلحتُهم إلا بالاجتماعِ لحاجةِ بعضِهم إلى بعض، لا بد لهم عند الاجتماعِ من رئيس، ولهذا أمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمتَه بتوليةِ ولاةِ أمورٍ عليهم، وأمرَ ولاةَ الأمورِ أن يردوا الأماناتِ إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناسِ أن يحكموا بالعدل، وأمرَهم بطاعةِ ولاةِ الأمور في طاعة الله).
وقد أكد هذا تلميذُه « ابنُ القيم فقال (من له ذَوقٌ في الشريعةِ، واطلاع على كمالاتِها، وتضُمُّنِها لغايةِ مصالحِ العبادِ في المعاشِ والمعادِ... تبينَ له أن السياسةَ العادلةَ جُزءٌ من أجزائِها وفرعٌ من فروعِها).
لذا فقد كانَ لعلمِ السياسةِ الشرعيةِ منزلةٌ فريدةٌ، جعلت من أحكامِ الفقه الإسلامي مَنْهلاً لا ينضُب، تنهَلُ منه كافةُ الأنظمةِ التي جعلت من الشرعِ الحنيفِ دَيْدَنًا لها.
وحيثُ زادت معاملاتُ البشر فيما بينهم، وزادَ احتياجُهم إلى مواردِ الطبيعةِ التي قامتِ النُظمُ القائمُة في كل قُطرٍ على توزيعِها وِفْقَ آلياتٍ ومعاييرَ معينة، كان لابُدَّ لضابطٍ يكفُلُ للجميع حقَّه في مطلبه، سواءً بينَ الناسِ بعضِهم وبعض، أو بينَ الناسِ والسُلُطاتِ القائمةِ على حراسةِ هذه المواردِ وتنميتِها.
ثم تنامَى دَوْرُ هذا الضابطِ الذي كفَلَ للجميعِ حقَّه على قدمٍ سواء، واصطُلِحَ على تسميتِهِ النظامَ (أي): «القانون»، وعُرِفَ بأنه ( مجموعةٌ من القواعِد العامةِ المجردةِ المُلزِمة تنظمُ سلوكَ مجموعةٍ من البشر، وتُرتِّبُ جزاءً على مخالفِ هذه القواعد، يتِم توقيعُ هذا الجزاءِ من قِبلِ السلطةِ العامة).
واختصتِ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ بإطلاقِ اصطلاحِ (النظامِ) على القانون، واشتُقَّ النظامُ في معناه الاصطلاحي مِن التنظيم وهو ما سَنَّه وليُّ الأمرِ بنفسِه أو مَن أنَابه من خلالِ السلطةِ التنظيميةِ لما تقتضيهِ المصلحةُ الشرعيةُ من مسائلَ موضوعيةٍ أو إجرائيةٍ مما لا يُعارِضُ الشريعة.
(النظامُ في المملكةِ العربيةِ السعودية)
اتسمتِ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ بِهُوِيّةٍ دينيةٍ ميَّزتْها عن سائر الدولِ الإسلاميةِ خاصَّةً، والعربيةِ عامَّةً ففي العصرِ الأولِ في أوائلِ القرنِ الثامنِ عشرَ، منذُ ولايةِ الإمام/ محمدِ بنِ سعود، الذي اشتُهِر بمحالفةِ المُصْلِحِ الكبيرِ الشيخِ/ محمدِ بنِ عبدِالوهَّاب يومَ قدِمَ إليه، ثم ساعدَهُ على نشرِ دعوةِ التوحيدِ والإصلاح، وبالفعل انتشرت هذه الدعوةُ انتشارًا واسعًا، وتوالتِ الدولةُ السعودية على هذا النهج إلى أن وصلت للدولةِ الحديثة التي سارت على دربِ مؤسِسِها الملكِ عبدالعزيز بنِ عبدِالرحمنِ آل سعودٍ رحمَهُ اللهُ تعالى، الذي اتخذ من الشريعةِ وأحكامِها ومَن التوحيدِ نبراسًا لنهجِ الدولةِ ودُستُورِها، وأَسَّسَ الحُكمَ في المملكةِ على نهجٍ من القرآن والسنة، ثم تَبِعه في ذلك خليفتُه الملكُ سعودٌ -طيَّبَ اللهُ ثراهُ- الذي قال في حديثِهِ ( فدستورُنا القرآنُ، وشريعتُنا في عبادتِنا ومعاملاتِنا ما جاء في كتابِ اللهِ وسنةِ نبيهِ صلى اللهُ عليه وسلمَّ وما عليهِ الخلفاءُ الراشدونَ والتابعونَ لهم بإحسانٍ، ومبادئُنا الاجتماعيةُ هي المبادئُ التي جاء بها الإسلام).
وتوالتِ الأنظمةُ والوثائقُ الدستوريةُ التي كانت بمثابةِ لَبِنةِ البناءِ في صرحِ التنظيمِ السعودِي فكان أوّلُها قانونَ الحجازِ الأساسِيَّ لسنة 1926م ستة وعشرين وتِسعمائة وألف للميلاد، ونظامَ مجلسِ الوكلاءِ لسنة 1931م إحدى وثلاثين وتسعمائةٍ وألف، ونظامَ مجلسِ الشورى، ونظامَ مجلسِ الوزراء وتعديلاتِ هذه النُظم المختلفة.
إلى أن صدَر النظامُ الأساسُّي للحكم الصادِر بالأمرِ الملكيَّ رقم أ/90 وتاريخ 27-08-1412هـ السابع والعشرين من شعبان عامَ اثني عشر وأربعِمائةٍ وألفٍ، ونصَّ في مادتِهِ الأولى على الآتي: ( المملكةُ العربيةُ السعوديةُ دولةٌ إسلاميةٌ ذاتُ سيادةٍ تامّةٍ، دينُها الإسلامُ، ودستورُها كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه -صلى اللهُ عليهِ وسلم-).
ومِن ثَمَّ أصبح جليًّا أن المملكةَ العربيةَ السعوديةَ انتهجت نهجًا ثابتًا لم تُغيِّرْه منذ نشأتِها، هذا النهجُ هو حفاظُها على الهُوِيّةِ الدينيةِ وخدمةُ الحرمينِ الشريفينِ لها في كافةِ مناحِي التنظيمِ لديها، وقد أكدت موادُّ النظامِ الأساسِيِّ للحُكمِ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ هذا المنحَى، ومن ذلك:
المادةُ السابعةُ من النظامِ الأساسِيِّ للْحُكْم التي تنصُّ على: (يَسْتمِدُّ الحكمُ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ سُلْطَتَه من كتابِ اللهِ تعالىَ وسنةِ رسولِه -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهما الحاكمانِ على هذا النظامِ وجميعِ أنظمةِ الدولة).
والمادةُ الخامسةُ والخمسون التي تَنُصُّ على: (يقومُ الملِكُ بسياسةِ الأُمِة سياسةً شرعيةً طبقًا لأحكامِ الإسلام).
فالمادةُ السابعةُ تقررُ أن كتابَ اللهِ وسنةَ رسولِه -صلى اللهُ عليهِ وسلم- هما الحاكمانِ على جميعِ أنظمةِ الدولة.
وفي المادةِ السابِعةِ والستين: (تَخْتَصُّ السلطةُ التنظيميةُ بوضعِ الأنظمةِ واللوائحِ فيما يحققُ المصلحةَ أو يَرْفعُ المفسدةَ في شؤونِ الدولةِ وفقاً لقواعدِ الشريعِة الإسلامية).
ولا شك أن توجُّهَ المملكةِ في أنظمتِها يؤكدُ توطيدها لدعائمِ الهُوِيةِ التي انتهجَتْها، وهي موافَقَةُ كافّةِ أنظمتِها لقواعدِ الشريعةِ الإسلامية.
وقَدْ أكّدَت على ذلك في أنظمِتها الأساسيةِ الحاكمة، معنى ذلك أنها قد أحاطت كافةَ الأنظمةِ الفرعيةِ واللوائحِ الداخليةِ بضمانةٍ دستورية في منتهى الصرامة، لا يجرُؤُ أحدٌ كائنًا مَنْ كان على تجاوُزِها، هذه الضمانةُ هي ما يُطلِقُ عليها القانُونِيُّونَ (أهلُ القانون) (دستوريةُ القوانينِ واللوائح)، بمعنى أنّ أيَّ قانونٍ فرعِيٍّ أو لائحةٍ داخليةٍ لا بُدَّ أن تكونَ موافقةً لأحكامِ القانونِ الأساسِيّ أَي (الدستورِ) وإلا أصبحَ معيباً بِِعُوَارِ المخالفةِ الدستورية، والتي تهدِمُ بنيانَ القانون.
هذه الدستوريةُ وهي الضمانةُ لمشروعيةِ النظامِ هي ضَمَانةٌ قانونية، وِفقَ ما اصطَلَح عليه أهلُ القانون، غيرَ أن الأنظمةَ السعوديةَ لم تُحَط بهذِهِ الضمانةِ فحسب، بل قد ضمنت مشروعَّيَتها أيضًا الشريعةُ الإسلامية، ضمنَ قواعدِ الفقهِ الإسلامِيِّ في فرعِ السياسةِ الشرعية.
بمعنى أن النظامَ السعودِيَّ قد حاز الكثيرَ من الضماناتِ التي جَزمَت له بالمشروعية، هذه الضماناتُ منها الضمانةُ الدُّستوريةُ المستَمدةُ من النظامِ الأساسيِّ للحكمِ في المملكة، الذي نص صراحةً على قيامِ نظامِ الحُكمِ في المملكةِ على كتابِ الله وسنةِ رسولِه، وبالتالي لم يَدَعْ مجالاً للشكِ في مشروعيته، وبالتبعيةِ لا بُدَّ أن يكونَ كلُّ تنظيمٍ أو لائحةٍ داخليةٍ مُتسِقًا وأحكامَ النظامِ الأساسِيِّ الذي اتسقت قواعدُهُ وموادُّهُ مُسبَقًا بأحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ ولم تخالِفْها، بل أكدت على ذلك في أكثرِ من مادةٍ من موادِّهِ كما سبقَ ذكرُه، وإلا باتَ مَعِيبًا بالمخالفةٍ الدستوريةِ التي تكفُلُ نقضَ ما خالفَ النظامَ الأساسِيّ.
ثم هناك ضمانَهٌ أخرى لا تَقِلُّ أهميةً عن سابقِتها، وهي الضمانةُ الشرعيةُ التي كفلت للنظامِ السعودي مشروعيَّتَه، بمعنى أن النظامَ السعودِيَّ انبَثَقَ عن مَعنًى شرعِيٍّ خالصٍ، هو من فروعِ الفقهِ الإسلامِيِّ الموسومِ بـ(السياسةِ الشرعية) ذلك العلمُ الذي لم يَضْطَلِعْ بِه إلا العلماءُ الأفذاذُ الذين كابدوا مَشقَّةَ الخوضِ في غمارِه، رَغْمَ ما لاَقَوْهُ من معارَضَاتٍ واتهاماتٍ بالتملُّق والمحاباةِ والمداراة، حيث لم يدرِكْ العوامُّ ممن هاجَمُوهم بُعْدَ نظرهم فيما كابَدُوه، رغمَ تلمُّسِهم المصلحةَ الشرعيةَ، وعليها دارت فتاواهُم واجتهادَاتهُم في فَلَكِ مراعاةِ المصلحةِ على خلافِ مستندِها الشرعِيّ، طالما لم تُخَالِفْ أصلاً من أصولِ الشرعِ الحنيف، فما جاءت به الشريعةُ وثَبَتَ عدمُ مخالفِتها له، وما لم يكن مناقِضًا لِرُوحِ التشريعِ العامّةِ والمقاصدِ الأساسيةِ والأصولِ الكُليةِ التي عُنِيَتِ الشريعةُ بالمحافظةِ عليها، ولو لم يرِد بها نَصُّ خاصٌّ بِعينه، هو ضابِطُ السياسةِ الشرعيةِ التي مَيَّزَها عن غَيْرِها من السياسات.
أما مجلسُ الشورَى وهو الجهةُ التنظيميةُ في المملكةِ فنصتِ المادةُ الثانيةُ من نِظامِه على ما يلي: (يقومُ مجلسُ الشورى على الاعتصامِ بحبلِ اللهِ والالتزامِ بمصادرِ التشريعِ الإسلامي..).
وإذا كانت جميعُ أنظمةِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ يحكُمُها كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ- وتلتزِمُ بمصادرِ التشريعِ الإسلامِيِّ، فإنها، والحالةُ هذه، جُزْءٌ من الشريعةِ الإسلامية.
لكنْ لتوضيحِ هذه المشروعيةِ التي اتسمت بها الأنظمةُ في المملكة كان الوقوفُ على آراءِ العلماءِ، وفتواهم في حُكْمِ النظام، ما لم يخالف أَصْلاً أو قاعدةً شرعية، كانَ لابُدَّ منه لتوضيحِ الأمرِ بصورةٍ جليةٍ، ينكشفُ بها الشبهةُ الدائرةُ في أذهانِ مَن قالوا بِحُرْمةِ سَنِّ الأنظمة، بدعوى أنها تخالِفُ المبدأَ الثابتَ وهو الاحتكامُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وإلى سنةِ نبيِّه صلى اللهُ عليه وسلمَ، وهُمَا أوّلُ مصادرِ التشريع الإسلاميِّ وأقواها حُجَّةً، كذلك باقي مصادرِ التشريعِ الإسلاميِّ الأخرى، لكن الأمرَ يسير إذا اتضحت معالِمُه، فكما ذكرنا من نصّ الأنظمةِ الأساسيةِ في المملكةِ على أن الشريعةَ هي المصدرُ الرئيسُ الذي استند إليه الحكمُ في المملكة، وجعلت كتابَ اللهِ عَزّ وجلَّ وسنةَ نبيِّهِ -صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّم- هما دستورُها والحاكمانِ على جميعِ الأنظمة، وبالتالي فإن الشريعةَ الإسلاميةَ حاكِمةٌ ومُحْتَكَمُ إليها، لا خلافَ في ذلك.
لقد أصّلَ علماءُ أصولِ الفقه في مؤلفاتهم أبوابًا وفصوًلا في سلطةِ وليَِّ الأمرِ في تغييرِ الأحكامِ لِتََغُّيرِ العللِ أو الأزمنةِ أو الأمكنةِ ومسايرةِ أعرافِ الناسِ ومصالِحِهم ما لم تعارِضْ أصلاً شرعيًّا أو قاعدةً مرعية، اِتُّفِقَ على عدمِ مخالفِتها.
ففي إعلام المُوَقِّعين ما نَصُّهُ: (إن الشريعةَ الإسلاميةَ مبناها وأساسُها على الحِكَمِ والمصالحِ وهي عَدْلٌ كُلُّها ورحمةٌ ومصالِحُ وحِكَم، وكُلُّ مسألةٍ خرجت إلى خلافِ ذلك فليست من الشريعة, وإِنْ أُدخِلَتْ فيها بالتأويل، وضربَ لذلك أمثلةً كعدمِ التكليفِ بإنكارِ المنكرِ إذا تَرتَّبَ على الإنكارِ مفسدةٌ، ونَهْىُ النبيِّ عن قطعِ الأيدِي في الغزو، كما رواه أبو داودَ خَشْيةَ أن يترتب على الحد ما هو شَرٌّ منه مثلُ اللحوقِ بدارِ الحرب والانضمامِ إلى الأعداء، وكَوْنُ عمرَ أسقطَ الحد بالقطعِ في عام المجاعة).
وتبعًا لذلك فإن وليَّ الأمرِ مقيدٌ في تغييرهِ للأحكامِ بما لا يختلِفُ مع التشريعِ الإسلامِيِّ، وأنه لابد أن يُبْنَى ذلك على المصالحِ والمفاسدِ والأسبابِ الشرعيةِ المختلفِة كالعُرفِ والمصلحةِ والذرائعِ وما إليها، وحينئذٍ فهو في حُكمه مقيدٌ بما يدُلُّ عليه الدليلُ الشرعي.
وبمقارنةِ ما سبَقَ في الوضعِ النِّظامِيِّ للمملكةِ العربيةِ السعوديةِ نجدُ أن النظامَ الأساسِيَّ قد قيَّدَ كُلَّ الأنظِمةِ اللاحقةِ عليه باتباعِها قواعدَ كتابِ اللهِ وسنةَ رسوله صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم يُجِزْ لأيِّ نظامٍ أو لائحةٍ أن تأتي مخالِفةً لهذينِ الأصلينِ الركينينِ.
ولعل من تلك الأنظِمةِ في المملكة العربية السعودية الأنظِمةَ التالية:
1- النظام الأساسي: أغلب مواده تشير إلى مرجعية النظام للشريعة الإسلامية.
2- نظام مجلس الوزراء: المادة الرابعة.
3- نظام مجلس الشورى: المادة الثانية وكذلك المادة الحادية عشرة.
4- نظام المرافعات الشرعية: المادة الأولى.
5- نظام القضاء: المادة الأولى.
6- نظام هيئة حقوق الإنسان: المادة الأولى.
7- نظام مجلس التعليم العالي: المادة الأولى.
8- نظام المناطق: المادة الأولى.
9- نظام حماية حقوق المؤلف: المادة السابعة عشرة.
10- نظام المطبوعات والنشر: المادة التاسعة والمادة السادسة والثلاثون.
11- نظام الأوراق التجارية: المادة التاسعة عشرة والمادة العشرون والمادة التاسعة عشرة بعد المائة والمادة العشرون بعد المائة.
12- نظام ضريبة الدخل: المادة الثانية.
13- نظام مؤسسة النقد: المادة السادسة.
14- نظام العمل والعمال: المادة الخامسة والثمانون بعد المائة.
15- جميع الاتفاقيات التي أبرمتها الدولة ينُص فيها على (يعمل الطرفان المتعاقدان طبقاً للأنظمة الداخلية في كل منهما) أو (يعمل الطرفان المتعاقدان وفقاً للأنظمة والقوانين المعمول بها في كلا البلدين).
ولم يقتصر الأمر على الأنظمة واللوائح بل تعدى ذلك إلى ما تُبرمه الدولة من اتفاقيات دولية في مُختلف الأنشطة السياسية والتجارية والتعليمية والسياحية وغيرها حيث قُيدت هذه الاتفاقيات بأن تكون وفق الأنظمة الداخلية لكل بلد ومنسجمةً مع الشريعة الإسلامية.
وبالتالي فإن السلطةَ التنظيميةَ في المملكةِ تتقيَّدُ أيضاً بما لا يُخالِفُ التشريع الإسلاميَّ، وتنظيمُها يكونُ مبنَاهُ على تَلمُّسِ المصلحةِ والمفسدةِ وسدِّ الذرائع، هذه التنظيماتُ لم تنشأ من عدمٍ بلْ إنها ترتكِنُ إلى أصلٍ عامِّ وقاعدةٍ مرعيةٍ مُسْبَقًا، تلك التنظيماتُ جاءت لتكشفَ عن حكمِ الشرعِ فيما استجدَّ من نوازِلَ، أو ما طرأَ من تغيراتٍ تحتاجُ إلى معالجةٍ بما يُوصِدُ البابَ على ملتمسي ثغراتِ الأحكام، ولاشكَّ أن الأحكامَ الظنيةَ التي لم يرد فيها نصٌّ قطعيٌّ ولا إجماعٌ هي التي تقبلُ التغييرَ وِفْقَ تغيُّرِ الظروفِ المحيطةِ بالبيئةِ وتغير الأزمنةِ والأمكنةِ والأعرافِ وغيرِها، وهناك العديدُ من الأمثلةِ التي كانت مضرِبَ المثلِ في الأنظمةِ الحاليَّةِ والتي تغيرت إما بتشديد جزاء مخالفتها، أو بتخفيف الجزاءات وفقاً لما طَرَأَ على المجتمعِ من تغيُّراتٍ أثرت فيه.
وقد فصَّل علماءُ الأصول في مسألة الفرقِ بينَ طاعةِ وليِّ الأمرِ في المعروفِ وتغييرِه للأحكامِ فقالوا: (فإن طاعَتََه في هذا، أي طاعتَه في المعروفِ، تشتملُ على ناحيةِ وجوبِ طاعتِهِ لكونه أميرًا، أمر اللهُ بطاعتِه وأوجبَ بِرَّه، وعَدَمَ الخروجِ عليه أو عَلَى أوامِرِه، بِغَضِّ النظرِ عن كونِه مجتهِدًا أو مستعينًا بأهلِ الفقهِ والاجتهادِ، ما دامَ الذي يأمرُ بِِهِ ليس معصيةً، أيْ لا يأمرُ بما حرَّمَ اللُه ولا ينهَى عما ألزَمَنَا به اللُه تعالى، أما عدا ذلك فيجوزُ أن يضَعَ له من الأنظمةِ ما يَرَى فيه مصلحةً للناسِ ولِكِيانِ الحُكم، ويشملُ هذا ما ورد النصُّ الشرعيُّ بإباحتِهِ على ما بيَّنَّا، فإن ولِيَّ الأمرِ إذا أَلْزَمَ بمُباح فيه مصلحةٌ عامّهٌ أو نَهَى عن مباحٍ فيه ضررٌ عامٌّ وَجَبَ امتثالُ أمرِهِ ونهيِهِ ظاهرًا وباطنًا، فيصبِحُ أمرُه وجوبًا شرعيًّا، وقد بيَّنَّا أنه في هذا مُظهِرٌ لا مُنشِئٌ، أما المباحُ الذي يأمُرُ ولِيُّ الأمرِ بفعلِهِِ أو تركِهِ ولم تَتَبَيَّنْ في الأمرِ بِه مصلحةٌ ولا في النهيِ عنهُ دَفْعُ مضرةٍ فإنه واجبٌ الطاعةُ ظاهرًا فقط.
ومعنى ذلك أن وجوبَ طاعةِ وليِّ الأمرِ فيما يَسُنُّه من أنظمةٍ لمصلحةِ الناس أو كِيانِ الحكمِ هي طاعةٌ واجبةٌ، وقد تكونُ ظاهِرًا وباطنًا، بمعنى التزامِ الأمرِ أو النهي بها ظاهرًا والاعتقاد بلزوم طاعتها ديانةً لأنها مظهِرَةٌ لحكمٍ شرعيٍّ وردَ الشرعُ به، أما وجوبُ الطاعةِ الظاهرةِ فمبناها على وجوبِ طاعِةِ الإمامِ وعدم شقِّ عصا الطاعةِ عنه، وقد أمَرنا بذلك أَيْضًا وتقدم بيانُ الحثِّ على وجوبِ طاعةِ وليِّ الأمرِ مادامتْ طاعتُه ملازمةً لأحكامِ الشَّرْعِ وما جاءَ بِه.
وجملةُ القولِ: إن هذه السياسةَ تابعةٌ دائماً لحاجاتِ الناسِ متغيرةٌ مع تغيُرِ تلك الحاجات، ولهذا كَثُرَت أحكامُها وتبايَنَت طرائِقُها وانتهت إلى نُظُمٍ تختلفُ باختلافِ الولاةِ والبلادِ والأمم.
وقد أجملَ الإمامُ ابنُ القيم في هذا الأمرِ فقال: (والذي أوجبَ لمُنْكِرِي السياسةِ الشرعيةِ ذلك نَوْعُ تقصيرٍ في معرفةِ حقيقةِ الشريعة، فلما رأى ولاةُ الأمرِ أن الناسَ لا يستقيمُ أمرُهم إلا بشيءٍ زائدٍ على ما فهِمَه هؤلاءِ الناسُ من الشريعةِ أحدثوا لهم قوانينَ سياسيةً تنتظِمُ بها مصالحُ العالَم، فتولَّدَ، من تقصيرِ أولئكَ في الشريعةِ وإحداثِ هؤلاءِ ما أحدثُوُه من أوضاعِ سياستِهم، شرٌ طويلٌ، وتفاقَمَ الأمرُ فأفرَطَ فيه طائفةٌ أخرى فسوَّغَت ما يناقضُ حكمَ اللهِ ورسولِهِ وكِلا الطائِفتَيْنِ أوتيتْ من قِبَلِ تقصيرِها في معرفةِ ما بعثَ اللهُ به رسلَه، فإنه أرسَلَهُم ليقومَ الناسُُ بالقسط، فإذا ظهرت أَمَاراتُ الحقِ وقامت أدلةُ العقلِ فثَمَّ شرعُ اللهِ ودِينُه، واللهُ لم يحصُرْ طرقَ العدلِ في نَوْعٍ دون غيرِه).
ومنتهى الحديثِ أن الأنظمةَ العادلةَ التي راعت شرعَ الله عز وجلَّ ودينِهِ هي جزءٌ لا يتجزَّأُ من السياسةِ الشرعيةِ التي تقتضي قيامَ ولاةِ الأمرِ بسَنِّ ما فيه مصالحُ الناسِ ودرءِ ما فيه مفاسدُهم.
وبالنظرِ في الأنظمةِ السعوديةِ نجدُ أن جميعَها محكومةٌ بكتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسَلم، ومضمونةٌ بضمانةٍ دستوريةٍ لا يمكنُ مبارَحَتُها أبدًا وإلا عِيبت بعدمِ الدستورية، وبالتالي فإن مشروعيتَها قد تأكدت من أكثرَ مِنْ طريق، ويلاحَظُ أن الأمرَ ليس حديثَ عهدٍ في بحثِهِ فقد كان لكبارِ العلماءِ -رحمهم اللهُ- ولاسيما الذين عايشوا بدايةَ التنظيمِ في المملكة - مشاركةٌ واضحةٌ في إقرارِ الأنظمةِ وتأييدِها، فقد ساهموا في دراسةِ مشاريعِ بعض الأنظمةِ ومارسوا القراءةَ الدستوريةَ لها، ومن الشواهدِ التطبيقيةِ ما ورد في دارسةِ الشيخِ / محمدِ بنِ إِبراهيمَ - رحمه اللهُ - رئيسِ القضاةِ في حِينه، وأوّلُ مُفْتٍ عامٍّ للمملكةِ العربيةِ السعوديةِ، لنظامِ توزيعِ الأراضي البُورِ المُحالِ إليه للدارسة، حيث عبَّرَ الشيخُ رحمه اللهُ عن رضاهُ عن بعضِ موادِّ النظامِ لعدم معارضتهِ للشريعة في الجملة، وبيَّنَ بعضَ ملحوظاتِه وبين في كُلِّ ملحوظَةٍ البديلَ الشرعِيَّ لها، وكُلُّها ملحوظاتٌ ومقترحاتٌ لم يَخْرُجْ فيها عن مبادِئِ عِلْمِ الأنظمة.
ثم فَصَّلَ القولَ الشيخُ محمدُ الأمينُ الشنقيطي صاحبُ أضواءِ البيان، وذكرَ بأن الأنظمةَ الوضعيةَ تتعددُ تبعًا لما تقضِي به، فالتي قضتْ بكُفْر خالقِ السماواتِ والأرضِ بلا شكَّ أنظمةٌ فاسدةٌ كافرة، وغيرُ ذلك فلا، ثم قسّم الأنظِمةَ إلى أنظِمةٍ إداريةٍ وشرعية، وهذا بيانُ ما ذكرَه رحمهُ الله (اعلم أنه يجبُ التفصيلُ بينَ النظامِ الوضعِيِّ الذي يقتضِي تحكيمُه الكفرَ بخالقِ السماواتِ والأرضِ، وبينَ النظامِ الذي لا يقتضي ذلك، وإيضاحُ ذلك: أن النظامَ قسمانِ: إداريٌّ وشرعيٌّ، أما الإدارِيُّ الذي يُرادُ بِهِ ضبطُ الأمورِ وإتقانُها على وجهٍ غيرِ مخالفٍ للشرع، فهذا لا مانعَ منه، ولا مخالفَ فيه من الصحابة، مِمّن بعدَهم، فمِثْلُ هذا من الأمورِ الإداريةِ التي تُفْعَلُ لإتقانِ الأمورِ مما لا يخالِفُ الشرعَ لا بأسَ بِهِ كتنظيمِ شؤونِ الموظفينَ، وتنظيمِ إدارةِ الأعمالِ على وجهٍ لا يخالِفُ الشرعَ، فهذا النوعُ من الأنظمةِ الوضعيةِ لا بأسَ به، ولا يَخْرُجُ عن قواعدِ الشرعِ من مراعاةِ المصالحِ العامة.
أما النظامُ الشرعِيُّ المخالِفُ لتشريعِ خالقِ السمواتِ والأرضِ فتحكيمُهُ كفرٌ بخالقِ السماواتِ والأرضِ كدعْوَى أنّ تفضيلَ الذكرِ على الأنثى في الميراثِ ليس بإنصاف، وكدعَوى أنّ تعددَ الزوجاتِ ظُلْمٌ، وأن الطلاقَ ظُلمٌ للمرأةِ، وأن الرجْمَ والقطعَ ونحَوِهما أعمالٌ وحشيةٌ لا يسوغُ فعلُها بالإنسانِ ونحوَ ذلك.
ومن ثَمَّ فإذا كان الإمامُ ملزَمٌ بالتقيدِ بالشرعِ في كلِ أمر عندَ سَنِّ الأنظمة، وطاعةُ الإمام مقيدةٌ بالتزامهِ بالشرع، فإذا لم يكنِ النظامُ مخالِفًا للشرعِ فإنه تقتضيهِ الشريعةُ الإسلاميةُ، وواجبٌ طاعتهُ بأمرِ اللهِ بالتزامِهِ بالشرعِ، لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأُولي الأمرِ منكم)، وإذا أكدت لنا كافةُ النصوصِ الأساسيةُ الحاكمةُ في المملكةِ بأن النظامَ مرعِيٌّ فيه نصوصً الكتابِ والسنة، وأن السلطةَ التنظيميةَ تلتزمُ بمصادرِ التشريعِ الإسلامي، كان حتميًّا أن يكونَ النظامُ في المملكةِ مستمِدًا لشرعِيّته من الأنظمةِ الأساسيةِ التي تقيدت بنصوصِ الكتابِ والسنةِ ومصادرِ التشريعِ الإسلاميّ، ومستمِدًّا لشرعيةٍ ركينةٍ أُخْرَى هي أنه جاء فرعًا عن السياسةِ الشرعيةِ التي هي أحدُ فروعِ الفقهِ الإسلامِيِّ التي أوجبت على الإمامِ سَنَّ التنظيماتِ المراعيةِ لمصلحةِ العبادِ معَ تغيرِ الأزمنةِ والأمكنة، ومراعاةَ القواعدِ الشرعيةِ مثلِ: سدِّ الذرائعِ وتقييدِ المُباحاتِ إذا دعتِ الحاجةُ إلى تقييدِها، أو العكسِ، كما ألزمت على وليِّ أمرِ المسلمينِ القيامَ على ما فيهِ خيرُ حياتِهم.
لكن هناكَ الكثيرَ مِمّن يمزِجُ بين غايةِ كلٍّ من الشريعةِ والنظامِ فيُقارِنُ بينَ غاياتهما، فإذا تبين له نقصُ الأخيرِ حكمَ ببطلانِهِ في مواجهةِ الشريعة، ولا بد هنا من التنويهِ إلى أن الشريعةَ الإسلاميةَ التي ارتضاها اللهُ عز وجلَّ ديِِنًا لعبادِهِ مِن يومِ خلقَ الأرض وما عليها إلى أن تقومَ الساعةُ، قد أتت بمصالحَ دنيويةٍ وأخرويةٍ، فشَمِلت غايتُها النوعينِ من المصالح، كما أوجبتِ الإثمَ على فعل المحرم، وأوجبتِ الثوابَ لمن تركَهُ مخافةَ الله، لذا فقد أتت بِوَجْهَيْ جزاءِ العمل في آنٍ واحد، أمَّا النظام فَعَلَى عكسِ ذلك، حيثُ إنه يهدِفُ إلى تنظيمِ أمورِ الناسِ المعيشيةِ في حياتِهم الدنيا، ورَغْمَ ما يقررهُ عليهم من جزاءاتٍ جرَّاءَ مخالفةِ أحكامِهِ فإنَّ كلَّ أنظمةِ العالمِ وأكثرَها رقيًّا وتطورًا لم تصل لمبلغِ ما وصلت إليه قواعدُ الشرعِ الحنيفِ من ترتيبِ جزاءٍ دنيويٍّ وأخرويٍّ في آنٍ واحد، أو ترتيبِ جزاءِ الفعل ونقيضهِ، فلم تكافِئِ الأنظمةُ مثلاً من لا يُقدِمُ على إتيانِ فعلٍ عاقب النظامُ على إتيانِه، وهذا ما يُبَرْهِن عَلَى سُموِّ القواعدِ التي أتت بها الشريعةُ الغراءُ، أصلُ الأنظمةِ الراقيةِ المتمدنةِ، وغيرُ مستساغٍ أن يُقارَنَ الأصلُ بالفرع، فالفرعُ يظلُّ في مرتبةٍ دونَ مرتبةِ الأصلِ وإن بلغَ ما بلغ، كلُّ ما في الأمرِ أن الكثيرَ أساءَ الفهمَ، فأساءَ التقديرَ، ورتبَ على سُوءِ تقديرهِ الكثيرَ من الأفكارِ المغلوطةِ، ونبذَ غيرَ ما تبناه وغيرَ ما اقتنعَ به، إلا أنَّ الأمرَ ليس سِجالاً بل تكامل وتوافق وتنسيق، لا أخذًا وتركًا.
الوضع في المملكة العربية السعودية
نصت نصوصُ نظامِ الحُكمِ على أن الشريعةَ الإسلاميةَ هي النظامُ الحاكمُ على نظامِ الحُكمِ وكافةِ الأنظمةِ المعمولِ بها، لذا فإن السلطةَ التنظيميةَ يجبُ عليها أن تستمدَّ أنظمةَ الدولةِ المختلفةَ من الشريعةِ الإسلاميةِ، أو على الأقلِّّ يجبُ ألا تتعارضَ الأنظمةُ الموضوعةُ مع الشريعةِ الإٍسلامية.
فقد نصَّ النظامُ الأساسِيُّ للحكمِ في المادة الثامنةِ والأربعين على أن تطبِّقَ المحاكمُ على القضايا المعروضةِ أمامها أحكامَ الشريعةِ الإسلاميةِ وفقًا لما دل عليه الكتابُ والسنةُ وما يُصدِرُه وليُّ الأمرِ من أنظمةٍ لا تتعارضُ مع الكتابِ والسنةِ ولا يتقيَّدُ بنظامٍ، إلا إذا اتفق هذا النظامُ مع الكتابِ والسنة.
لذا فقد مَثَّلتِ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ أُنموذجًا للحلِّ العملِيِّ السليمِ لعَلاقةِ الشريعةِ الإسلاميةِ بالقانونِ الحديث، وهذا الحلُّ لم يكن ممكِنًا لو لم توجدْ في الشريعةِ الإسلاميةِ مبادئُ ووسائلُ ذاتيةٌ، أي في الشريعةِ نفسِها، تسمحُ بتطورِ الأحكامِ، وإيجادِ حلولٍ للمشكلاتِ الجديدة، وأهمُّ هذه المبادئ: الإباحةُ والاجتهادُ والمصلحةُ، أَيْ الانطلاقُ من هذه المبادِئِ عند وضعِ حلولٍ للمشكلاتِ الجديدةِ في أمورِ المعاملاتِ وفي شؤونِ الدولة.