يحصل عندنا في الممارسات الطبية شيء أغرب من الخيال: مسمى التشخيص علمي غربي، وطريقة التشخيص احتيالية خرافية لا تنتمي إلى أية مدرسة طبية، ووصفة العلاج صيدلانية علمية بحتة والمعالج الواصف لها معالج شعبي شبه أمي، والصارف للعلاج هو الصيدلية الخاضعة لرقابة السلطات الصحية.
قبل سنتين أو ثلاث اتصلت هاتفياً بزميل أعرفه من موظفي الشؤون الصحية بالرياض راجياً منه التحقق من نشاط علاجي غريب يحصل في حي منفوحة، وذلك بعد أن تكررت عندي حالات المراجعين الذين سبق أن استشاروا معالجاً شعبياً في شقة صغيرة في حي منفوحة قبل قدومهم للاستشارة الطبية في العيادة التي أعمل بها. أثار اهتمامي في إفادات أولئك المراجعين ثلاثة أشياء؛ أنهم كلهم يتم تشخيص حالاتهم المرضية من نظرة سريعة فقط لا غير يلقيها معالج منفوحة في عين المريض فيعرف منها التشخيص والعلاج، وأنهم يتسلمون من المعالج وصفات مكتوبة على ورقة بيضاء بدون ترويسة أو اسم أو تاريخ أو تشخيص، وبحروف إنجليزية مائلة ومشوهة، من الواضح أنها محاولة استنساخ حرفي لوصفات طبية كتبها من قبل طبيب حقيقي، وتحتوي على مضادات حيوية ومسكنات آلام وإنزيمات هضمية ومنشطات، والأمر الثالث هو أن كل هؤلاء المرضى يعانون بكل وضوح من أزمات نفسية أو ضغوط اجتماعية يمكن أن تفسر كل الأعراض التي كانوا يشتكون منها أو معظمها على الأقل.
المدهش أيضاً كان وجود ما يشبه الاقتناع المتفق عليه لدى ذلك النوع من المراجعين من القدرة الهائلة في التشخيص والعلاج التي يمتلكها معالج منفوحة بعد إلقاء نظرته الخاطفة في عين المريض، بل وأن بعضهم زعم عنه أنه توصل إلى نفس التشخيص الذي حصلوا عليه من قبل من أطباء حقيقيين. عندما أسألهم مثل ماذا؟.. كانت الإجابات تتراوح بين: لقا عندي جرثومة معدة، أو قولون أو عسر هضم أو تلبك أو شحم على الكبد أو حساسية. بالنسبة لي كطبيب الأمر واضح، هذا الرجل يوظف ذكاءه الفطري لإيهام المراجعين المصابين بمتلازمات القلق والوساوس والضغوط الاجتماعية بأنهم مصابون بأمراض عضوية ويختار لهم ما يناسبه من القائمة الطويلة التي يندر أن يخلو منها بيت يعيش على النمط الاجتماعي والغذائي الذي نعيشه في السعودية.
لكن السؤال المحير والكبير هو: كيف يستطيع رجل مهما كانت مواهبه أن يوهم هذه الأعداد الكبيرة من الناس بقدرته على تشخيص عللهم من إطلالة في عيونهم؟. أقول وأكرر أنه استطاع أن يوهم أعداداً ليست قليلة من الناس بهذه القدرات الخرافية استنتاجاً من المرضى الذين استشاروني بعد أن مروا على معالج منفوحة، وكذلك من عاينتهم قبله ثم ذهبوا إليه ثم عادوا إلي مرة أخرى. لم ينفع طلبي الهاتفي من موظف الشؤون الصحية التحقق من الموضوع، ولا وعده لي بأن أعتبر الموضوع منتهياً لأن الشؤون الصحية حسب قوله مهتمة بالموضوع من قبل اتصالي، وتعرف الكثير عن هذا المعالج الشعبي في حي منفوحة.
لكن أخيراً، وقبل أسبوع طفح الكيل فقررت أن أشارك القراء في الاطلاع على هذه الظاهرة الطبية العجيبة وقدرتها على التلاعب بعقول الناس ومصائرهم الصحية.
أقول: طفح بي الكيل أخيراً بعد أن حضرت إلى عيادتي قبل أسبوع سيدة تعطي أوضح مثال على متلازمة الوسواس القهري المرضي، وكانت قد مرت على معالج منفوحة أيضاً. سألتها كيف عرفت عنه وعن مكانه فقالت من شبكة الإنترنت؛ حيث يتكرر اسمه كثيراً على أنه ليس فقط مجرد مشخص للأمراض من النظر في العين، بل أن مواهبه وصلت إلى درجة أن الطب الجنائي الرسمي يستدعيه أحياناً ويطلب منه المساعدة لمعرفة أسباب الوفيات الغامضة التي يخفق الطب العجلي والجنائي في تحديد أسبابها.
ضربت بكفي على جبهتي أمام المريضة وزوجها وصرخت: يا ناس، أنتم انهبلتوا؟. تضاحك الإثنان على صرختي البائسة بعد أن استنتجوا أن المخبول الحقيقي بين الجميع هو أنا.
أطلب من كليات الطب ومن التعليم العالي ومن هيئة التخصصات الصحية، ومن جميع من يهمهم تقدمنا في علوم الطب أمام العالم أن يوقفوا التعليم والتدريب الطبي في الجامعات والبعثات الخارجية، وأن يرسلوا طلبتنا لدراسة الطب في منفوحة.