كَانَتْ لِعَيْنِي قُرَّةً وَلِمُهْجَتِي
سُرُوراً فَخَابَ الطَّرْفُ وَالْقَلْبُ مِنْهُمَا
كثيراً ما يمر بالإنسان في حياته من أيام وساعات راحة بالٍ واطمئنان نفسي بعيدا عن المنغصات والأكدار.. فما تلبث تلك الأجواء الهادئة صافية الأرجاء والآفاق إلا أن تهب عليها هوج الرياح محملة بما يكدر ويلهب القلوب حزناً وتفجعاً على فقد غالٍ وحبيب لا يرجى إيابه..
فيوم الثلاثاء 24-6-1433هـ ليس كمثل الأيام التي مرت بحياتي ونحن بغبطة وهناء بين أبنائنا وأحبابنا نتجاذب أطراف الأحاديث الودية والطرائف الممتعة، وغير ذلك من لحظات وساعات الفرح والمرح، وكذلك الأيام لا يدوم لها سرور، فبينما كنت اُسرح طرفي بالقراءة والتدبر في كتاب الله بعد صلاة العصر لأروي غلّتي من آياته الكريمة، وقصصه المعبرة التي تسلي النفس وتربيها على التقى والفضائل.. فإذا بأخي عبدالرحمن يُحادثني عبر الهاتف يحاول دفع عبراته مكفكفاً دموعه وقد غصته لوعة الحزن حاملاً نبأ وفاة والدتنا ونور حياتنا «الجوهرة بنت محمد الوشيقري» في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض قائلاً (عظم الله أجرك في وفاة الوالدة) فلم أملك في تلك اللحظة المحزنة التي دكت هضاب قلبي سوى تلاوة الآية الكريمة (إنا لله وإنا إليه راجعون) والترحم عليها والدعاء لها بالمغفرة والمنازل العلى في الجنة، ولقد تأثرت كثيراً لرحيلها عنّا وفاض دمع العين مردداً:
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي
إلا الأسى في حنايا القلب يستعرُ
وكانت -رحمها الله- شمعة ساطعة مضيئة في جوانب مسكنها وملتقى لأبنائها وبناتها وأقربائها ومحبيها.. ولقد نشأت -رحمها الله - في طاعة الله منذ فجر حياتها ونعومة اظفارها، بارّة بوالديها واصلة لرحمها حافظة لحق زوجها، ومربية لأبنائها وبناتها، محبة للبذل في أوجه البر والإحسان طيبة المعشر حريصة على جيرانها وإكرام ضيوفها، صديقة للأطفال تحرص على ادخال السرور عليهم ومحبة للفقراء والمساكين تتعاهد حاجاتهم، موصية إيانا دوماً بصلة الرحم والحرص على الفضائل. وكانت يرحمها الله كثيرة الزيارة لبيت الله الحرام حجاً وعمرة عاشت سليمة القلب كافة عن أعراض الناس تحب الخير وأهله.. والحمد الله الذي أقرعينها ببناء مسجد قبل وفاتها رحمها الله وأسأل الله أن يبني لها بيتاً في الجنة.
وقد خلفت ذرية صالحة بنين وبنات، واعتنت بتربيتنا هِيَ ووالدنا «محمد بن ناصر الجماز» متعه الله بالصحة والعافية وأطال الله عمره على طاعته ورزقنا بره، فأصبحوا قدوة صالحة لأبنائهم ومن حولهم، ولقد خيّم الحزن علينا وعلى شقيقها الخال «عبد العزيز الوشيقري، وشقيقتيه.. ومحبيها..،
وقد عانت رحمها الله قبل وفاتها من مرض عضال ألم بها لعدة سنوات فكانت صابرة محتسبة متوكلة عليه ترجو ما عند الله من المغفرة وما أعد للصابرين، وكانت تُعدد نعمة الله عليها التي لاتعد ولاتحصى. وقد قام إخوتي -جزاهم الله عنا خير الجزاء- ببذل الغالي والنفيس رجاء شفائها حيث جابوا أفضل المستشفيات العالمية طمعاً في علاج يخفف آلامها وماتقاسيه من ضراوة وشدة في مرضها ولسان حال إخوتي يقول:
وَقَدْ كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَرَاكِ سَقِيمَةً
فَكَيْفَ وَقَدْ أَصْبَحْتِ فِي التُرْبِ أَعْظُمَا
وعندما وقفنا على جثمانها الطاهر وقد أُلبست حلل الراحلين لنلقي عليها نظرة الوداع والدعاء لها بالرحمة والمغفرة، وقد كُشف عن محياها الذي يشع بالنور، فتوالت قبلات إخوتي وأخواتي وأبنائنا وأقاربنا على محياها وأنا أرى ذلك المنظر المهيب مُودّعاً ذاك الوجه الطاهر الذي يشع ايماناً وسرورا، وعندما جاء دوري قبلت جبينها الساطع قبلة وداعٍ أبدي براً وإجلالاً لأمي مرددة:
خُذا الزَّاد يا عيني من نور وجهها
فما لكما فيه سوى اليوم منظرا
وأُديت عليها صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 25-6-1433هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، الذي اكتظ بجموع غفيرة من المصلين رجالاً ونساءً..، ثم تبعها خلق كثير حتى ووري جثمانها الطاهر في ثرى مقبرة أم الحمام - رحمها الله- ولك أن تتصور حال إخوتنا وأبنائنا ومن لهم صلة بها وهم يصوبون أنظارهم نحو جثمانها المعطر.. وهي في مرقدها من الأرض واللبنات تُصفّ على حافات ذاك اللحد في باطن الأرض، ودموع أعينهم تهمي حرقةً مُرطبةً جوانبه، ولسان حالهم يردد هذا البيت:
سلام على القبر الذي ضمَّ أعظماً
تَحُومُ المعالي حولها فَتُسَلّمُ
وعند عودتنا إلى المنزل الذي خرجت منه فإن حزننا ولوعات الفراق تضاعفت ويطول أمدها في نفوسنا وبين جوانحنا كان الله في عوننا وتغمدها الله بواسع رحمته. وما يخفف المصيبة إيماننا الجازم إنها قدِمت على جواد كريم يُحسن وفادة من وحده ورجاه وأطاعه ودعاه بمنه وعفوه وكرمه ولقد أحسن الشاعر البارودي حيث يقول:
سَقَتْكِ يَدُ الرِّضْوَانِ كَأْسَ كَرَامَةٍ
مِنَ الْكَوْثَرِ الْفَيَّاضِ مَعْسُولَةَ اللَّمَى
ولقد أحدث غيابها فجوة واسعة يتعذر ردمها ومحوها من الذاكرة في محيطنا الأسري ومحبيها ولئن غاب عنّا شخصها تحت طيات الثرى فإن ذكرها الجميل وأعمالها المحمودة ومواقفها المشرفة معنا باقية في طوايا النفس فقد خلدت بيننا ذكراً طيباً مُدوياً في القلب لاينسى تغمدها الله بواسع رحمته - وجمعنا بها وبأحبابنا في جنات النعيم على سرر متقابلين. ولا يسعني في هذا المقال إلا أن أقدم شكري الجزيل لمن واسانا حضوريا أوعبر الهاتف من أماكن عدة داخل المملكة وخارجها من أقرباء وأحباب، و أمراء وأميرات فُضلاء مما خفف عنا وطأة الحزن جزاهم الله عنا خيرا ولا أفجعهم بمصيبة - تغمد الله والدتنا بواسع رحمته، وألهم ذويها وأبناءها وبناتها وأخاها وشقيقتيها وأقاربها ومحبيها الصبر والسلوان..
حصة بنت محمد بن ناصر الجماز