كلما حلت ذكرى بيعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - أتذكر كيف أنني استبشرت كل الخير مع بداية عهده الميمون، فبعد مرور أقل من شهرين على بيعته صدر الأمر الملكي الكريم بإنشاء كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود لتكون هي الجامعة الأولى من نوعها على مستوى المملكة، ولتتضمن بين أقسامها الثلاثة قسما لا يوجد مثيل له على مستوى العالم العربي بل وربما على مستوى العالم كله، وأعنى بذلك قسم إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي والذي أشرف بالانتماء إليه، ومن هذا المنطلق فكتابتي عن إنجازات السنوات السبع الماضية من عهد خادم الحرمين الشريفين سوف تنحصر في مجال عملي كأستاذ جامعي متخصص في إدارة موارد التراث، وذلك لسببين أولهما أن كم ما أنجز في مختلف المجالات من الصعب حصره في هكذا مقال، فهي إنجازات -وبلا مبالغة - تفوق ما يمكن أن تنجزه دول أخرى في سبعين عاماً، وثانيهما أنني أكتب عن واقع عايشته في مجالي العلمي والعملي.
ففيما يتعلق بمجال عملي كأستاذ جامعي أشهد أن الطفرة الجامعية التي شهدتها المملكة في الأعوام السبعة الأخيرة تفوق كل ما كان متوقعاً؛ ففي بداية بيعته - يحفظه الله - كان عدد الجامعات السعودية 14 جامعة أُنشئت على مدى نصف قرن من الزمان تقريباً، وذلك منذ إنشاء جامعة الملك سعود سنة 1377 وحتى إنشاء جامعة حائل سنة 1426، وفي خلال أقل من سبعة أعوام فقط اقترب هذا العدد من الضعف حيث تمت إضافة 10 جامعات ليصبح إجمالي الجامعات 24 جامعة حكومية، والإنجاز ليس في العدد وحسب وإنما في الامتداد الجغرافي الذي امتد ليشمل كافة مناطق المملكة فوصل التعليم الجامعي إلى أماكن لم يصل إليها من قبل فافتتحت جامعات في الباحة، وتبوك، ونجران، والحدود الشمالية، بل وأنشأت جامعات عديدة في محافظات منطقة الرياض فكانت جامعات، الخرج، وشقراء، والمجمعة.
ومن بين المنشآت الجامعية الجديدة يأتي الحرم الجامعي الجديد لجامعة الأميرة نورة، تلك الجامعة التي أعلن عن إنشائها في مقرها القديم خادم الحرمين حين كان وقتها وليا للعهد، وافتتح - وهو خادم للحرمين - مقرها الجديد المجاور لمطار الملك خالد، بوابة الرياض والمملكة، لتكون هذه الجامعة العملاقة هي أول ما يراه القادمون للملكة، وتلك رسالة واضحة أن التعليم هو أحد أهم أولويات المملكة، والحديث عن هذه الجامعة وتجهيزاتها وما رصد لها من ميزانية أمر يعكس مدى اهتمام خادم الحرمين بقضايا التعليم ويكفي القارئ أن يعرف أن هذه الجامعة هي أكبر جامعة على وجه الأرض من حيث المساحة.
ومما يؤكد اهتمام خادم الحرمين بقضية التعليم الجامعي وجعلها واحدة من أهم القضايا التي يوليها اهتماماً شخصياً إنشاؤه لجامعة شرفت بحمل اسمه وخصصت للدراسات التقنية والعلمية وهي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية, في مدينة ثول على شاطئ البحر الأحمر شمال مدينة جدة، والتي تعدّ أهم جامعة في الشرق الأوسط في هذا المجال، وقد شرفها بالافتتاح في مناسبة الاحتفال باليوم الوطني في 23 سبتمبر 2009، وأذكر وأنا أتابع - تليفزيونياً - حفل افتتاحها المهيب، كيف كنت مندهشاً من كثرة عدد الملوك والرؤساء والأمراء المشاركين بالحضور، ولم يكن سبب اندهاشي هو حضور ذلك العدد الكبير من كبار قادة العالم لمشاركة الملك عبد الله ذلك الاحتفال، ولكن كان سبب ذلك هو تزامن بدء جلسات الدورة الرابعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في نفس اليوم وهي اللقاءات التي من المفترض أن يحضرها ملوك ورؤساء وقادة العالم وهو الأمر الذي يعكس قيمة المملكة ومليكها لدى أولئك الملوك والرؤساء.
واستمرارا لمسيرة الإنجازات احتفلت المملكة منذ أيام قلائل بتدشين المرحلة الأولى، ووضع حجر الأساس لثماني عشرة مدينة جامعية ومجمعات أكاديمية للطلاب والطالبات، في كل من جازان وحائل، والجوف وتبوك، ونجران، والحدود الشمالية والباحة وشقراء، والمجمعة، وطيبة، والقصيم والطائف والخرج، إضافة إلى مدينة الملك عبد الله بن عبد العزيز للطالبات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومدينة الطالبات بجامعة الملك سعود، ومدينة الطالبات بجامعة أم القرى، وتتكون من عدد كبير من المشاريع بتكلفة إجمالية تتجاوز الثمانين مليار ريال.
ولم يقتصر الأمر على إنشاء جامعات جديدة وتدشين مدن جامعية بل صاحب ذلك إنجاز كبير تعلق بالتطور الكيفي في منهجيات ومخرجات الجامعات السعودية، تجسد ذلك في تبوء عدد من الجامعات السعودية لمراكز متقدمة في تصنيف الجامعات العالمية، ويكفي للتدليل على ذلك ما حققته جامعة الملك سعود من احتلالها مركزا متقدما في ذلك التصنيف وضعها في بدايات المائة الثانية بين أفضل مائتي جامعة في العالم، وهو التصنيف الذي سبقت به كل الجامعات العربية والشرق أوسطية، ولم يقتصر الأمر على هذا التفوق بل استمرار المحافظة عليه على مدى السنوات الأربع الماضية.
وإذا ما انتقلت من مجال عملي إلى مجال علمي وتخصصي الدقيق كأستاذ في مجال إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي فأشهد أن إنجازات المملكة في هذا المجال تتقدم بخطى واسعة في السنوات الأخيرة، ولعل البداية كانت بعد أقل من ستين يوما من بداية عهد خادم الحرمين بإنشاء كلية السياحة والآثار، وفي العام 1429 جاء تحول اسم الهيئة المنوط بها حماية التراث والآثار وتنشيط السياحة في المملكة من الهيئة العليا للسياحة إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار تأكيداً على أن السياحة الداخلية واقع وطني يستلزم قيام الجهات المسئولة بالتخطيط لتطويره وتنميته، وانطلاقاً من المقومات السياحية المتميزة للمملكة، ولعل من أهم إنجازات الهيئة في عهد خادم الحرمين الشريفين هو تسجيل بعض المواقع الأثرية في المملكة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، تلك القائمة التي لا يسجل بها إلا المواقع ذات القيم الفريدة والمتميزة على المستوى العالمي، وقد كانت البداية بتسجيل موقع مدائن صالح، ثم كان تسجيل مدينة الدرعية التاريخية، وتعمل الهيئة حاليا على تسجيل عدد من المواقع الأخرى يأتي على رأسها مدينة جدة التاريخية.
كما أنه من أهم الإنجازات في هذا المجال ذلك العرس السنوي الذي يعقد من أجل غرس قيم التراث في نفوس الأجيال الجديدة والمحافظة على استمراريته في ظل صراعات الهوية العالمية، وأعنى بذلك المهرجان الوطني للتراث والثقافي (الجنادرية) الذي أكمل منذ شهور قلائل دورته السابعة والعشرين، تلك الدورة التي اجتذبت ما يزيد على سبعة ملايين زائر، واضعة بذلك هذا المهرجان في قائمة أضخم مهرجانات العالم من حيث عدد الزوار، وجاعلة منه أكبر مهرجان تراثي على مستوى العالم، ولم لا وهو يحظى برعاية خادم الحرمين شخصيا ويعقد تحت رعايته ويشرفه بالحضور والافتتاح في كل دورة من دوراته، ولعلي لا أفاجئ القارئ حين أذكر أن هذا المهرجان حين بدأ سنة 1405 هجرية في دورته الأولى كان نتاجا لفكرة سمو ولي العهد وقائد الحرس الوطني آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، فخادم الحرمين الشريفين هو من بدأ هذا المهرجان فكرة وهو من غرسه بذرة، وهو من رعاه إلى أن صار ثمرة، بل ودرة المهرجانات التراثية في العالم وقد انعكس ذلك في مشاركات دول أجنبية صديقة في فعاليات الجنادرية حيث يستضيف المهرجان كل عام دولة صديقة كضيف شرف المهرجان فرأينا كوريا، وروسيا، واليابان، وفرنسا.
كذلك أرى من إنجازات هذه السنوات السبع ذلك العدد الهائل من آثارنا المستعادة من الخارج وهي الآثار التي خرجت من المملكة وتعمل الهيئة العامة للسياحة والآثار على استعادة المفقود منها، سواء كانت في الداخل أو الخارج وفق الأنظمة والاتفاقيات الدولية، وقد أسفرت الجهود التي بذلتها الهيئة عن استعادة ما يزيد عن 14 ألف قطعة أثرية، شملت: أدوات حجرية من عصور ما قبل التاريخ، وأواني فخارية وزجاجية من مختلف العصور، ونقوشاً كتابية قديمة وإسلامية ومنحوتات حجرية ومعدنية وعملات إسلامية وغير ذلك، بعض هذه القطع أعيدت بموجب الأنظمة والاتفاقيات الدولية، وبعضها الآخر أعيد طواعية من قبل الأشخاص الذين نقلوها من أماكنها، أو أعادها ورثتهم بعد وفاتهم.
وهي في مجملها قطع أثرية لها أهميتها القصوى لما تمثله من شواهد تاريخية مهمة لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة تاريخ الجزيرة العربية والحضارات التي سادت على أرضها.
ولم يقف الأمر عند حدود عودة آثارنا من الخارج بل كان هناك إنجاز آخر لا يقل أهمية وهو عرض آثارنا للعالم الخارجي في أكبر متاحف العالم وأشهرها فكان معرض روائع المملكة الذي يتضمن قطعا تعكس ما تتميز به المملكة من بعد حضاري عريق يضاف إلى ما يعرف عنها من أبعاد دينية وسياسية واقتصادية، وأسهم في التعريف بالحضارات التي سادت على أرض المملكة العربية السعودية ودورها التاريخي والحضاري، وكانت الانطلاقة الأولى لهذا المعرض في أشهر وأعرق متاحف العالم وأعنى متحف اللوفر في باريس سنة 2010م، وذلك قبل أن ينتقل منها إلى أسبانيا ثم إلى روسيا وهو الآن في محطته الرابعة في ألمانيا وقد اجتذب في محطاته الأربع حتى الآن أكثر من مليون زائر نقل إليهم الوجه الحضاري للمملكة، ومن المخطط أن يستمر هذا المعرض المتنقل في جولاته في عدد من المدن الأوروبية والأمريكية وذلك بهدف التعريف بالبعد الحضاري الذي تتميز به المملكة.
ولعلي اكتفي بهذه اللمحة عن إنجازات خادم الحرمين الشريفين في مجال عملي وأختم بموقفين له في هذا المجال ففي حفل تدشين المدن الجامعية خاطب القائمين على التعليم بل وكل مسئولي الدولة بكلمات غاية في البساطة وغاية في التعبير في ذات الوقت حين قال - يحفظه الله - «وأطلب منكم أن مكاتبكم لا تحطون عليها بواب ولا تسكرونها أمام الشعب لأنكم أنتم كلكم ونحن خدام لهذا الشعب ولهذا الوطن» أما ما فعله في افتتاح الدورة الأخيرة لمهرجان الجنادرية حين أمر -يحفظه الله- بإلغاء الأوبريت الغنائي للمهرجان الوطني للتراث والثقافة لهذا العام، تضامناً ووقوفاً مع الأشقاء من الشعب السوري، وما يحدث من سفك لدماء الأبرياء وترويع للآمنين، إضافة إلى ما حدث في مصر الشقيقة من أحداث أدت إلى وفاة العديد من الأبرياء، إلى جانب ما جرى ويجري في اليمن وليبيا الشقيقتين من أحداث مؤسفة ذهب ضحيتها العديد من الأبرياء، وما مرت به تونس الشقيقة من أحداث مؤلمة، لأمر يعكس إنسانية ملك طلب منا -تواضعا- ألا نصفه بأنه «ملك الإنسانية»، ونحن لأمره لطائعون، ولبيعته مجددون.
- كلية السياحة والآثار - قسم إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي