إن سعد بن معاذ بن النعمان الأوسي الأنصاري، أبو عمرو من خيار صحابة رسول الله، وكل الصحابة خيار، لأنهم خير الأمة، السابقون وخير القرون المفضَّلة أسلم على يد مصعب بن عمير، لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، يعلِّم المسلمين أمور دينهم ويقرئهم القرآن، فلما
أسلم قال لبني عبد الأشهل كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى يسلموا، فأسلموا فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام، وشَهِدَ بدراً ولم يتخلّف من جماعته أحد، وشَهِدَ أحداً والخندق (أسد الغابة 2: 373).
وصفه الذهبي بقوله: السيد الكبير الشهيد، أبو عمرو الأنصاري الأوسي الأشهلي البدري الذي اهتز العرش لموته، ومناقبه كثيرة مشهورة، في الصحاح وفي السيرة، وعند ابن سعد وغير ذلك، وقد أورد الذهبي جملة من ذلك، في تاريخ الإسلام في سنة وفاته (سير أعلام النبلاء 1: 279).
وقال عنه الزركلي في الأعلام: سعد بن معاذ بن النعمان، بن امرئ القيس، الأوسي الأنصاري: صحابي من الأبطال، من أهل المدينة، كانت له سيادة الأوس، وحمل لواءهم يوم بدر، وشَهِدَ أحداً فكان ممن ثبت فيها، وكان من أطول الناس، وأعظمهم جسماً، ورُمي بسهم يوم الخندق فمات من أثر جرحه سنة خمس من الهجرة، وعمره سبع وثلاثون سنة، وحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ 3 :139 .
آخى رسول الله بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح بعد الهجرة، قال ابن هشام: سأل سعد بن معاذ أخو بني الأشهل ونفر من الصحابة بعضاً من أحبار يهود، عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياها، وأبوا أن يخبروهم عنها فأنزل الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} 159 سورة البقرة السيرة لابن هشام 2: 200.
وقد سرّ رسول الله بمقالة سعد في بدر، ونشّطه جوابه عندما قال عليه الصلاة والسلام أشيروا علي أيها الناس، قال ابن هشام: وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه في العقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا براء من ذمامك، حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان رسول الله يتخوّف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرة، ما دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم على عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء، لعل الله يريك ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسرَّ رسول الله بقول سعد، ونشّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم الآن (السيرة لابن هشام 2: 267).
رُمي رضي الله عنه في الخندق بسهم في أكحله، رماه حباب بن العَرِقَة، سُمي بذلك لأن أمه، وهي امرأة من بني سهم كانت طيبة الريح، واسم أبيه عبد مناف بن عمرو بن معيض بن عامر، بن لؤي فقطع أكحله فلما رماه قال: خذها وأنا ابن العَرِقَة، قال سعد: عرَّق الله وجهك في النار، اللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذّبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرَّ عيني في بني قريظة.
ولما أذعن يهود قريظة، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، أرسل رسول الله ليحكم في قريظة، فأقبل على حمار، فلما دنا من رسول الله، قال: قوموا لسيدكم، أو قال خيركم، أحكم فيهم، قال: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتُسبي ذراريهم، فقال رسول الله: حكمت بحكم الملك، وفي رواية ابن اسحاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوموا إلى سيدكم فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو قد ولاَّك رسول الله أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، قالوا: نعم وعلى من ها هنا؟ من الناحية التي فيها رسول الله ومن معه، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له.
فقال رسول الله: نعم: فقال سعد أحكم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري.
وكان سعد لما جرح ودعا بما تقدّم ذكره، انقطع الدم، فلما حكم في قريظة، انفجر عرقه، وكان رسول الله يعوده، وأبوبكر وعمر والمسلمون (أسد الغابة 2: 375).
وأخرج ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قال سعد في قريظة: لقد حكم فيهم بحكم الله الذي حكم به سعد من فوق سبع سموات 6 :3 من حديث خالد بن مخلد.
وفي موته رُوي أن جبريل عليه السلام، نزل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا نبي الله، من هذا الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟ فخرج رسول الله يجر ثوبه فوجد سعداً قد قُبض (أسد الغابة 2: 375).
وفي هذا أورد الذهبي بإسناد صحيح من رواية عبد الله بن إدريس قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله: هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفتحت أبواب السماء، وشهده سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضم ضمة ثم أفرج: يعني سعداً.. وقد علّل الذهبي الضم هذا بقوله: هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمنون، كما يجد ألم فقد ولده، وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم الورود على النار، ونحو ذلك.
فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد، وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به، في بعض ذلك أو كله ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}. فنسأل الله تعالى العفو، واللطف الخفي، ومع هذه الهزات، فسعد ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء، كأنك يا هذا تظن أن الفائز، لا يناله هول.. في الدارين ولا روع ولا ألم، ولا خوف، سل ربك العافية، وأن يحشرنا في زمرة سعد (سير أعلام النبلاء للذهبي 1: 290 - 291).
ومع مكانة سعد بن معاذ التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في سيرة حياته استنبط العلماء رحمهم الله أحكاماً شرعية، ومن ذلك: أن الكافر إذا أسلم فإنه يجب عليه الغسل، وهو مذهب مالك وأبي ثور، وابن المنذر وغيرهم، ودليلهم ما روي عن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما، أنهما حين أرادا الإسلام سألا مصعب بن عمير، وأسعد بن زرارة، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر، قال: نغتسل ونشهد شهادة الحق، مما يدل على أنه كان مستفيضاً (المغني:1 : 276).
وقد استدلوا من قول سعد بن معاذ رضي الله عنه، في اتباع الجنازة: (ما تبعت جنازة، فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها)؟
على أنه يستحب لمتبع الجنازة، أن يكون متخشّعاً متفكّراً في مآله، متعظاً بالموت، وبما يصير إليه الميت، وأن لا يتحدث بأحاديث الدنيا ولا يضحك، وما ذلك إلا أن فعل الصحابي حجة (المغني 3: 389).
ومع أن الفقهاء اتفقوا على أن الشهيد لا يغسل، ولا يُصلى عليه قدوة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما حصل للشهداء في أحد إلا أن هذا العموم، قد خصص بأن يكون في محل القتل، وأنه لم يُحمل وفيه رمق، فسعد بن معاذ رضي الله عنه، رمي بسهم يوم الخندق، وحمل إلى المسجد فلبث فيه أياماً، فلما مات بعد ما حكم في بني قريظة، غسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه وكان شهيداً (المغني 3: 472).
وفي قصة خيانة بني قريظة، وحكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم، دليل على رجاحة عقله، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم، حيث حكم فيهم بعد أن رضوا حكمه، وتوثّق من ذلك بقوله: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء.
ويكفي مكانة لعلم وفقه سعد: أن حكمه فيهم، وافق حكم الله عزَّ وجلَّ، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت يا سعد فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقمة (ابن هشام 3: 251).
ولما مات أتى جبريل عليه السلام، رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش.. قال الراوي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً يجرّ ثوبه إلى سعد، وهو في خيمة بطرف المسجد، فوجده قد مات، رضي الله عنه (سيرة ابن هشام 3: 262).