إذا كان لكل عصرٍ مفاهيمه ومصطلحاته.. ولكل مرحلة من مراحل التاريخ البشري اهتماماتُها وقضاياها.. فإن عصرَنا الحالي هوعصرُ «مفهوم العولمة» التي فرضت نفسها بقوة على حياتِنا المعاصرة.. فأصبح لفظ العولمة هو الأكثر انتشاراً وشيوعا بين مختلف شرائح المجتمع بكافة فئاته إلا أن فئة الشباب هي الفئة الأكثر انصهاراً في بوتقة هذه الظاهرة لذلك فإن تداعياتها وتأثيراتها تجلت بوضوح عند هذه الفئة التي تشكل المساحة الأوسع للهرم السكاني لأي مجتمعٍ من المجتمعات.
فإذا كانت هذه الظاهرة تُمثِلُ منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانبُ السياسي بالجانب الاقتصادي وهذان الجانبان يمثلان معاً نظاماً تكاملياً مع الجانب الثقافي والاجتماعي.. ليرتبطَ العالمُ بأكمله في نظامٍ حلقي متصل يأتي ضمن تعميمِ الشيء ليشملَ الكل وبالتالي يبقى فضاءُ التواصلِ البشري في قريةٍ كونية واحدة بفضل شرايين التكنولوجيا.. وتقنية الإعلام المنتشرة في مختلف أصقاع المعمورة..!! إلا أني أتساءل.. في ظلِ هذا الزخم المتراكم من المفاهيم والأبعاد والعناصر المحيطة بظاهرة العولمة كمفهومٍ حضاريٍ شامل.. ترى ماهو شكل العلاقة بين الشباب كمفهومٍ اجتماعي والعولمة كبعدٍ حضاري ؟
ليس من الأهمية أن أُعرِج على مفهوم العولمة أو النبش في محدداتها أوآلياتها أو طبيعة فاعليها وليس فاعليتها فقد أشبعها المفكرون العرب دراسة وشرحاً وتفصيلاً حتى أن كثيراً من النخب العربية.. اتفقت على أن العولمة تُمثِلُ غزواً واختراقاً للهوية العربية والإسلامية بل إنها استلابٌ لكل الخصوصيات العربية.. لكن مهما كانت النظرة لظاهرة العولمة وماتفرزه من تداعيات وتأثيرات سلباً أو إيجاباً فإن أقربَ وصفٍ توصف به بأنها مدٌ جارف بكل المقاييس والمعطيات اخترق بقوة الشريحة الأوسع في المجتمعات العربية وهي شريحة الشباب الذي أُصيب بحالة انبهار لامتناهية بهذه الظاهرة وما تفرزه من معطيات أو سلوكيات أو حتى قيم منافية لسلوكيات وقيم ثقافتنا العربية والإسلامية فتشربها مأكلاً وملبساً وسلوكاً ولغة .
إن تيار العولمة من المنظور الاجتماعي يهدف إلى نقلة فكرية في أوجه متعددة من الحياة والمفاهيم وثوابت القيم والضوابط الاجتماعية من قبل قوى وتيارات مختلفة تستهدف الشباب في عقيدته وهويته وانتمائه وأخلاقياته وسلوكه.. وبمعنى آخر تغيير في توجهات الشباب بدعاوى مختلفة إلا أنها تنضوي جميعاً تحت لواء التضليل ونشر الشبهات وذلك للنيل من هذه الشريحة المهمة وتحييدها وتعطيل دورها الحيوي في بناء المجتمع.
فإذا كانت المعطيات الإيجابية لظاهرة العولمة تتمثل في توسيع قاعدة المعرفة لدى الشباب مما يساعد على زيادة الرصيد المعرفي والثقافي لديه عن طريق عمليات الاتصال عبر شبكات التواصل الالكترونية مايعزز فرص التنوع والتنافس.. إلا أن أبرز معطيات العولمة السلبية والمؤثرة على الشباب العربي تكمن في تراجع للغة العربية الأم في مواجهة اللغات الأكثر تداولاً في العالم مايُشكِل ذلك نوعاً من التبعية الفكرية الثقافية الغربية.. إلى جانب ضعف شعور الانتماء عن طريق التفاخر بالحضارة الغربية يضاف إلى ذلك انتشار ثقافة الاستهلاك والتي هي إحدى أبرز معطيات العولمة لكن يبقى الترويج لأنماط معينة من العلاقات الأسرية السائدة في الغرب هي أخطر التحديات التي تواجه الشباب في ظل العولمة.
العولمة ظاهرة واسعة متشعبة ومعقدة.. طرِحت ولا زالت تُطرح تتناولها الأقلام باستفاضة مناقشة وفكراً ورأياً.. إنها وبكل معطياتها وتداعياتها تمثل فضاءً ضبابياً بامتدادٍ لامتناهٍ يعيش فيه الشباب بين مدٍ وجزر تتجاذبهم قوى مختلفة مابين صراع وحيرة ليبقى الإملاء الأخير لهذه الظاهرة هو إملاء إرادة الإخضاع والخضوع الاستسلام والإدمان ونسيان الذات وانغماس في تقليدٍ أعمى لا يمت بأي صلة لثقافتنا وموروثاتنا العربية والإسلامية.
zakia-hj@hotmail.com