أول شيء تعلمناه من الدراسة عند الخواجات تنظيف مكان العمل بعد انتهاء الدرس وتركه كما وجدناه قبل بداية الحصة. كان معنا في مختبر الكيمياء الطبية زميلان من إيران ينحدران من أسرة ارستقراطية فارسية، ينويان دراسة الطب في جامعة ماينز في ألمانيا الغربية. ذات يوم أحضر الشابان في يوم التطبيق العملي لحصة الكيمياء امرأتين من جنسيتهما وأمراهما بالوقوف في ركن قصي من المختبر. سألهما المشرف الألماني ما شأنهما فأشارتا بالأصابع إلى الشابين الإيرانيين من بين مجموعة الطلبة. اتضح للمشرف ولبقية الطلبة أن الامرأتين تعملان في خدمة الطالبين الإيرانيين فأحضراهما للمعمل بقصد تنظيف مكانيهما بعد انتهاء الحصة الدراسية. عليكم أن تتخيلوا احتقان وجه المشرف الألماني وضحكات الاستهزاء عليهما من الطلبة. لم نر الطالبين الإيرانيين ولا الخادمتين في الكلية بعد ذلك اليوم. واضح أن الزميلين الإيرانيين كانا يستنكفان من القيام بأعمال تنظيف مكانيهما بعد الدرس لأنهما لم يتربيا على ذلك في المنزل الارستقراطي وجلبا معهما من يقوم بالمهمة عنهما على جاري العادة في طهران أيام حكم الشاه.
هنا عندنا تكررت في الأسابيع الأخيرة في الصحافة السعودية (جريدة الحياة) مشاهد الوصف بالكلمة والصورة لشكوى العاملات الآسيويات في جامعة الأميرة نورة من الطالبات الجامعيات هناك، وكيف يتركن أماكن الطعام والصالات والدرج في حالة فوضى تملأها بقايا الأكياس والمناديل والطعام لأنهن يفتقدن ثقافة نظافة المكان كلازمة تربوية يجب أن تتوفر في عقلية الطالبة الجامعية. بتعبير أوضح، طالباتنا وطلبتنا الجامعيون يتمادون في البرطعة ومغادرة المكان في حال مزرية لأنهم لم يتربوا على غير هذه الثقافة الرديئة منذ أن كانوا تلاميذ، لا في المدارس ولا في المنازل.
البرطعة كمفردة لغوية وردت في كتاب ألف ليلة (حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع) ونجدها هكذا: فلما رأى الحمار صاحبه حرك ذيله ورفس وبرطع فضحك التاجر حتى استلقى على قفاه. لاحظوا أن التاجر كان مبسوطاً من حماره.
إذن البرطعة هي إحداث الفوضى في المكان المخصص للكائن الحي كتعبير إما عن الاحتجاج أو الابتهاج أو الشعور بعنفوان النعمة والدلال الزائد. في كل الأحوال يحتاج المبرطع إلى إعادة تأهيل. للاستعارة فقط، لأن البشر لا يفترض بهم أن يبرطعون، أستعمل هذه المفردة لوصف الأحوال التي يجد عليها عاملات وعمال النظافة الأجانب الصفوف الدراسية ودورات المياه وصالات الطعام بعد مغادرة طلبتنا وطالباتنا لها عائدين بحفظ الله إلى منازلهم ليستمروا في البرطعة هناك.
ليس الموضوع مضحكاً على الإطلاق وإنما يبعث على البكاء لهذا التشوه الأخلاقي في مفاهيم النظافة في العقلية السعودية وكيف تتعامل مع المكان. المتنزهات والشوارع والميادين والمدارس والجامعات وحتى أقاصي الصحاري، هذه كلها تفيض بالمخلفات التي يتركها المبرطعون في كل مكان. السبب هو أنهم لم يتربوا على عقلية المسؤولية عن المكان وصحة البيئة منذ الصغر وتركت المهمة للعمالة الأجنبية مقابل الفلوس. الناس عندنا يتوضؤون ويحفظون آيات وأحاديث النظافة كجزء من الإيمان منذ الطفولة المبكرة ويتباهون أمام الأديان الأخرى بأن دينهم دين النظافة، لكن تصرفاتهم ليس لها من ذلك أي نصيب.
لماذا طغت عقلية البرطعة على كل التعاليم والمفاهيم ومقاييس الذوق.. ذلك ما يحتاج إلى بحث جدي في نفسية وقناعات الموطن السعودي. عموما لا جدال في أن البطر الاستهلاكي وإهمال التهذيب والتأديب والتدريب يفتح أبواب البرطعة على مصاريعها.
مع ذلك لا بد من هذا السؤال: إذا كانت الطالبات في أفخم وأغلى وأحدث جامعة عندنا على هذا المستوى من الانفلات البيئي فما هو حال الطالبات والطلبة في أماكن أخرى ليست بهذه الفخامة والحداثة؟.
لو كان لي من الأمر شيء لفرضت مقرراً دراسياً تطبيقياً للتعامل مع المكان والبيئة في كل الصفوف الدراسية عليه درجات نجاح أو رسوب، ولصرفت عمال وعاملات النظافة من جميع مؤسساتنا التعليمية وألزمت الطلبة والطالبات بالمهمة.