البحث عن حل سياسي للأزمة السورية يبدو مستحيلاً.. فأي حل سوف يعني مقداراً من تنازلات يعرف النظام أنه لا يجرؤ على تقديمها لأحد.
لهذا السبب، فعندما تطلّب الأمر حواراً، فقد حاور النظام نفسه فقط.. وعندما تطلّب الأمر إجراء إصلاحات قرر النظام أن يجريها بنفسه وعلى مقاسه.. وعندما كان الحديث يجري عن انتخابات،
فقد أجراها النظام مع عصابته. كل ذلك من أجل أن يقول إنه لا يستطيع أن يقدم أي تنازل.. وهو ليس مستعداً لتقاسم أي شيء مع أي أحد.
أي تنازل، مهما كان صغيراً، سيعني نهايته.. حتى البديهيات صعبة عليه.. ابتداء من التعددية، ووصولاً إلى حرية الصحافة.. وإذا كان لا شيء يمكنه أن يستقيم من دون دولة قانون، فإن آخر ما ينفع هذا النظام هو أن تكون هناك دولة قانون.. فالفساد لا يعود ممكناً، والانتهاكات لن تمر من دون حساب، وسلطة الأجهزة الأمنية ستنهار، والسجون لن تعود مكاناً لممارسة أعمال التعذيب والقتل والاغتصاب.
ولعل قادة هذا النظام سوف يتساءلون مع أنفسهم: وما نفع سلطة لا تمنحنا فساداً، وكيف يمكن العيش من دون اعتقالات عشوائية؟ وما متعة اقتحام المنازل من دون تقارير أمنية ملفقة؟ وما الذي سيجعلنا نثير الرهبة والخوف من دون نظام خوف؟ ومن سيهتف لنا “بالروح بالدم” إذا شعر الجميع أنهم محميون بالقانون لا بمقدار رضانا عنهم؟
لم يكن النظام في دمشق غبياً عندما اختار الحل الأمني. لقد وجَّه لنفسه هذه الأسئلة من قبل، وكان يعرف أجوبتها.
لو وضعَ الذين يأملون بحل سياسي أنفسهم في مكان النظام لوجدوا أنه لا يستطيع أن يقدم لهم شيئاً. وسيكون من عميق الخطأ أن ينتظر المعارضون منه تحقيق ما لا يقدر عليه.. لأن الذي عاش على بيع الخوف، لا يستطيع أن يعيش على أي شيء آخر.. وإذا زال الخوف، فإن النظام برمته سيزول ولا تعود له قيمة أو معنى، ولن تتوفر لديه وسائل القهر والابتزاز والتضليل التي تبقيه حياً، كما لن تتوفر له من “موارد النهب” ما يسمح بتوزيع المنافع على أركان جمهورية الشبيحة الصامدين في خنادق “الصمود والممانعة”.
لقد اختار النظام أن يُرهب وأن يقتل منذ اللحظة الأولى لاندلاع الانتفاضة.. ولكن، ليس لأنه كان لا يملك أية وسائل أخرى، بل لأنه أدرك منذ تلك اللحظة أنه لا يستطيع أن يعطي حتى مجرد الانطباع بأنه مستعد لتقديم أي تنازل.
ومنذ تلك اللحظة، اختار النظام شعاره الوحيد: إما كل شيء، أو لا شيء.. وخاطبَ كبار الشبيحة أنفسهم بالقول لبعضهم البعض: إما أن نكون معاً، أو لا نكون.
وهذا ما كان.
وسيواصل هذا النظام أعمال القتل دون انقطاع وذلك طالما ظل يشعر أنه يستطيع العيش يوماً إضافياً.
إنه يعيش من يوم إلى يوم.. ويدقق في معادلات القتل بطريقة واعية للغاية.. ويريد لها أن تستمر، لعلها تستطيع إعادة إنتاج نظام الخوف.. ولن يسمح لها بأن تتوقف إلا إذا توقفت قبلها المطالب برحيله. بل وإلا إذا تحولت تلك المطالب إلى توسلات من أجل بقائه دون أن يبطش بالمزيد ممن لن ينجدهم أحد.
وإذ يعرف هذا النظام، أن أحداً لا يريد أن يتدخل عسكرياً، فقد اختار أن يحول شعباً بأسره إلى رهائن، يقتل فيهم ما طاب له الهوى، لكي يقنع المجتمع العربي والدولي أن لا حل سواه، وأنه لا بقاء لهذا الشعب إلا تحت حذائه. يرمي عليه إصلاحات كما لا تُرمى لمتسول، فإن شاء أخذ بها، وإن لم يشأ فإلى دوامة القتل والجحيم.
وساعتها سيتحاور مع نفسه، ويقدم إصلاحات على مقاسه، ويجري انتخابات يفوز فيها، ليس بنسبة 70 أو 80 أو حتى 90%، بل بنسبة 99.99% لأنه لن يعيش حتى مع 10%.. حقيقية تفضحه تحت حماية القانون.
لقد اختار هذا النظام أعمال القتل، ليس لأنها الخيار الوحيد الذي يملك، بل لأنها الخيار الوحيد الذي يلائم بقاءه كنظام شبيحة وخوف.
فهل يُوجد مراقبون دوليون؟
حسناً.. يعرف هذا النظام كيف يتعامل معهم. سوف يرخي لهم حبل القتل قليلاً من باب، لكي يقولوا إن هناك “تقدماً” يتحقق، ويشده من باب آخر لكي يقول إن نظام الخوف باقٍ ولن يزول.. ومن يوم إلى يوم، يطاولُ هذا النظامُ بقاءَه، ما أُتيح له أن يطاول. فكل القصة بالنسبة له، هي أن يعيش يوماً آخر، وآخر بعد الآخر، لعل الضحايا يقتنعون بأنه لا سبيل لهم أن يخرجوا بحل أفضل مما كانوا عليه: العيش تحت الحذاء وتحت رحمة “الصمود والممانعة”.
عدا ذلك، فإنه سيظل يقتل ويقتل.
وكل ما يتركه لدينا هو أن ننتظر تفككه وسقوطه من تلقاء نفسه، بتأثير الضغوط الاقتصادية ربما، أو بتأثير الانهيار الأمني.
فاذا جاءت آخر لحظة لبقائه، فإنه يكون قد أعد عدته للهرب ككل، من دون أي تنازلات.. وسيكتشف الزاحفون إلى دمشق أنهم كانوا يحاربون وهماً في الأثير، بينما الرئيس وكبار شبيحته توزعوا بين موسكو وطهران منذ وقت، دون أن يدرك اختفاءهم أحد.
فهل ع0رفت لماذا ترسو سفن روسيا الحربية على الشواطئ؟.. إنها هناك لنقل كبار الشبيحة إلى حيث يأمنون إذا أزفت ساعة الرحيل.
إذا كان هذا هو “الحل” السياسي الذي يملكه هذا النظام، فهل لديك ما تتحاور بشأنه معه؟
كاتب وناشر ورئيس تحرير “المتوسط أونلاين”