كان تأسيس هيئة مكافحة الفساد قبل أكثر من عام، بمثابة النقلة الحضارية في المجتمع السعودي، وقد اعتبرتها مختلف الفعاليات بدء مرحلة هدفها الأسمى المحافظة على المال العام وكشف الفساد الإداري، وفي جانب آخر، قلل بعض المتشائمين من فرص نجاحه لأمر له علاقة بالبيروقراطية المركزية، والتي لن تسمح أحياناً في كشف أوراق بعض المفسدين، فيما رأى آخرون أن الرقابة يجب أن تأخذ أسلوبا يستمد قوته من ثقة المواطنين، ومن أجل أن لا نفقد الأمل سنضع ثقتنا في الهيئة وسننتظر النتائج، والتي قد تكون مؤلمة لو طبقت مبدأ الشفافية في إجراءاتها، ولا سبيل عن هذا النهج، إذا أردنا الخروج من نفق المحسوبية والعلاقات المتشابكة جدا.
ستكون المهمة الصعبة للهيئة في كيفية التعامل مع هدف تأسيسها، وهو المحافظة على المال العام، والذي يؤرق مستقبل الأجيال القادمة، وهل تستطيع الهيئة المركزية الحد من هدر المال؟ في ظل نظام متشابك ومتداخل في علاقات اجتماعية متينة، وينتظر الرأي العام من الهيئة بناء ثقافة المحافظة على المال العام بين المواطنين، والعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة، والتي لا تفرق في كثير من الأحيان بين الخاص والعام، والتي منها أن هناك من يعتقد أن المال العام غنيمة له حق فيها، وتظهر ثقافة الغنيمة في بعض الممارسات؛ مثل عدم الفصل الواضح بين القطاع الخاص والعام، ومنها التهرب من دفع الرسوم ودفع فواتير الكهرباء والمياه، وفيها أيضاً التعدي على الأراضي العامة وغيرها.
وصل الأمر أن يفهم البعض أن تولي إدارة المؤسسة او الوزارة يدخل في باب المنفعة الشخصية، وأن من حقه أن يتنفع ويٌنفع أقرباءه، بل وصل المبالغة أن يردد البعض أن سرقة الدولة ليست من الكبائر، وحاولت أن أبحث عن سر قبول سرقة المال العام في العقل المسلم، وكانت المفاجأة لي أن الرأي الفقهي لثلاثة من الفقهاء الأربعة في سرقة المال العام يفتح المجال لمزيد من السرقات، فقد استدل جمهور العلماء على سقوط حد السرقة (القطع)، وذلك لأن سرقة المال العام فيها شبهة تدرأ الحد عنه، لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، والشبهة أن المال في بيت المال مِلكٌ للناس، وإذا كان السارق واحداً منهم، فيكون له حق، ووجود هذا الحق يدرأ الشبهة! وربما يفسر ذلك عدم احترام الناس للملكية العامة!
ما نريده من الهيئة في الوقت الحاضر أن تصحح هذه المفاهيم من أجل حماية المال العام من أجل الوطن ومستقبل الأجيال القادمة، لذلك ننتظر منها أن تُطبق مبدأ من أين لك هذا، كما طبقته الدول المتقدمة، ولأننا مسلمون، نحن أولى بتطبيقه منهم، خصوصاً أننا نتشدق كثيراً بهذه المقولة، ونرددها في برامج الوعظ والنصح الديني، وأن تلزم الهيئة المسؤول في أن تكون أرصدته ونشاطاته المالية تحت الرقابة، وأن يتم حصر ممتلكات وأرصدة المعين وأقرباءه المقربين، وذلك لمقارنتها بثروته بعد تركه للمنصب، وذلك للحد من تكوين الثروات الطائلة من المال العام، إذ لا يٌعقل أن تتضاعف ثروات البعض عشرات الأضعاف من دخله الوظيفي خلال سنوات تعيينه، ولو طُبق هذا الإجراء لوفرنا أموالا طائلة للأجيال القادمة، ولانخفضت المشاريع الأسمنتية، وارتفع الصرف على تنمية الموارد البشرية.
في نهاية الأمر تظهر بوضوح صدق النوايا والقرارات، ومنها تأسيس هيئة تعزز قيم النزاهة وتكافح الفساد المالي والإداري، لكن بدون نتائج واضحة تكشف المتورطين في هذا الشأن، قد تفقد الهيئة الثقة التي منحتها إياها القيادة العليا، وبالتالي يخسر الوطن جولة من أهم جولاته من أجل الوصول إلى مستقبل أكثر اطمئناناً، ولو حدث ذلك لن يكون هناك خيار إلا البحث عن وسائل أثبتت جدواها في الدول المتطورة، وهي منح تلك الصلاحيات لمجالس تمثل الصالح العام، وعندها يصبح المجتمع مسؤولا مباشرة عن هدر المال العام.