في عصر تميز بشح المعلومة وانعدام المصدر.. وفي زمن كانت تعتبر الرحلة في سبيل العلم والمعرفة أشبه برحلة تسلق قمة إيفرست محفوفة بالتعب والخطر والمجهول.. مصادر العلم قبل أكثر من ثمانية عقود في المملكة العربية السعودية كانت أشبه بقصة خيالية تسردها الأم إلى أطفالها قبل النوم.. كيف لا؟ وهي تتطلب سفراً وسهراً وإرادة حديدية لا تعرف الكلل أو الملل.. إذ كان من يعرف أن يفك الحروف ويكتبها على الورق حالة نادرة غير متوافرة بكثرة فكيف بمن يصنف بأنه مثقف وعالم وموسوعة حتى في عصرنا هذا؟؟
عبدلله بن محمد بن خميس, كان أحد هؤلاء الطلاب الذي شقوا بأيديهم طرقهم إلى عوالم المعرفة وتمرسوا البذل والسهر والترحال في سبيل الغاية الكبرى ألا وهي العلم, منطلقاً من قريته الصغيرة في الدرعية خالياً من كل شيء سوى الرغبة الجامحة في التعلم وسبر أغوار المعرفة.. رحلة لم تعرف الراحة أبداً, تنقلاته في ربوع المملكة الشاسعة لم تعرف سيارة أو طائرة, تعلم فيها أصول الدين وحفظ القرآن الكريم عن ظهر غيب وتتلمذ على أيدي أساتذة تنبأوا بعد مقابلته برجل لن تعرف المملكة مثله, وأسموه وأقرانه من التلاميذ بالسلسلة الذهبية معللين وصفهم بأن المملكة دولة فتيّه وبحاجة إلى رجال علم وفقه حتى يكونون عوناً وسنداً في إدارة شؤون الدولة الناشئة في ذلك الحين.
نبغ ابن خميس في الحفظ وبدأت تتفجر بداخله مواهب عديدة كان أبرزها وأكثرها حضوراً هي ملكة الشعر, حيث برع في كتابته وحفظه, وألقى أول قصيدة له وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة أمام الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فأعجب به وتساءل حينها عن هوية هذا الطفل الذي تجلت فيه ملامح النبوغ الشعري.
لم يرد ابن خميس أن يكون شاعراً فحسب بل كان رحمه الله موسوعة في الجغرافيا والتاريخ, فتنقلاته في صحاري المملكة وبواديها ومروره على جبالها وسهولها وهضابها مرات عديدة, ومعرفته بأسرار الصحراء وأهلها, خولته بأن يكون “قوقل” جغرافيا المملكة وتاريخها, حيث لا يوجد شبر في أرض المملكة المترامية الأطراف إلا وقد وطأتها أقدام ابن خميس.. وكان الناس في ذلك الحين يأتونه من كل أطراف البلاد ليسألونه عن المواقع والمعالم ويأخذون منه أخبار الأماكن وتاريخها, وكأن عقله وذاكرته القوية بمثابة موقع إلكتروني يخزن آلاف المعلومات والبيانات, كما وترجم ذلك على شكل كتب كان أشهرها “معجم اليمامة” و”المجاز بين اليمامة والحجاز” وغيرها من الكتب التي أثرت المكتبة العربية بتاريخ الجزيرة العربية والدولة السعودية.. ويطيب لي أن أذكر موقفاً له -رحمه الله- حين كان مقبلاً على العلم ومحباً للقراءة وشغوفاً بالاطلاع منذ صغر سنه وكان يقرأ بلا توقف, فدخل عليه في غرفته المتواضعة أحد الأصدقاء ووجده مستغرقاً في القراءة على ضوء مصباح خافت, فقال له مشفقاً على حاله ووقته الذي يضيع بين صفحات الكتب على حد وصفه: مالك ومال الكتب والثقافة فهي لن تفيدك.. تعال معي واستمتع بحياة الترف وولائم الطعام الشهي في بيوت أحد الأصدقاء فرفض ابن خميس قائلا بلغة عامية:
“أنا أبخص”.. وتدور السنين وتمضي ويأتي صديقه الذي أشفق على أحواله يوماً, يطلب منه وظيفة متواضعة له في مصلحة المياه حين كان ابن خميس رئيساً لها.
في الذكرى الأولى لرحيل الشيخ عبدلله ابن خميس ندرك أننا لم نفقد شخصاً واحداً بل مجموعة رجال وعقول في جسد واحد خط مسيرةً بحجم المملكة امتدت أكثر من 80 عاماً في خدمة البلاد بالعلم والقلم.. فمن قريته المغمورة في الدرعية خرج وبعد سنوات من الجد والعمل تسلم جائزة الدولة التقديرية, وكرم على يد الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بالوسام الفرنسي بدرجة فارس, وكافأته فلسطين التي وقف بجانبها دوما مدافعا وداعما بشارع باسمه في قطاع غزة.
مسيرة عبدلله بن خميس.. مسيرة تستحق أن نتأملها عن كثب وندّرسها لأبنائنا في المدارس لنخبرهم أنه إذا كانت النفوس كباراً.. تعبت في مرادها الأجسام, وأننا بالعلم نبني بيوتاً لا عماد لها ونفسر له قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
نبض الضمير:
(لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال)
المتنبي
Twitter:@lubnaalkhamis