لست أدري كيف قرع الزميل (محمد المهنا أبا الخيل) الذاكرة والقلب ليوقظ فيهما شجناً تاريخياً منسياً كان يجب علينا أن نعيده إلى ذاكرة الأجيال، ونقدمه بشكل جديد؛ لأنه يتعلق بالاقتصاد السعودي النبيل الذي كان يتمثل بالصدق والوفاء، وثمن الكلمة الغالية عند الرجال في التعامل التجاري والمقايضة، لا سيما في ذلك الزمن البخيل بالموارد وضيق ذات اليد، وسنوات الجوع المر في السنوات العجاف التي يصحبها الجفاف والأوبئة وموت الزرع والنبع والضرع في صحراء قاتلة، لا يُسمع فيها سوى عويل الرياح ورغاء الإبل العجفاء، وحداء الرجال الذين يقهرون المستحيل في التشريعة والتغريب لانتزاع (لقمة الجزيرة العربية) من بلاد الخصب والثراء من خلال تعاملهم الأمين مع كل القرى والبوادي التي يمرون بها، ولا يحملون من سقط الدنيا سوى الالتزام بالكلمة والوفاء بها، حتى ولو وصل (النصل) بها حد الرقاب، وهم يعبرون (بوادي) فيها القتل والسلب والإغارات و(الحنشله).
***
في ذلك الزمن، أيها الزميل، ويا من طرقت القلب كانت القبائل النجدية المهاجرة قبلاً إلى الشمال، تشم في أولئك الرجال الباسلين رائحة عرار الوطن القديم (ويحنّون) له، كما تحن إبلهم إلى ركائب العقيلات و(زملهم) التي لا تعرف تعب المسافات الهائلة القصية. وكان العقيلات يتصفون بين سكان البوادي وكذلك سكان القرى بالسلوك النبيل؛ لذلك أعرف أكثر من عشرات القصص عن العقيلات تمثل أجمل خلق جميل، وأعرف أكثر عن القبائل الشمالية؛ فكلاهما يتبادلان الشهامة والنبل والوفاء والثقة، سواء أكان في تعاملهما معاً أو في تعاملهم مع سكان مدائن وقرى الشمال، وكذلك مدائن الهلال الخصيب وحماية القوافل إذا ما تهددها الخوف والاغارات، وانفلات عقال البداه في الصحراء المطلقة..
(ونكمل لاحقاً).