في كل الثقافات البشرية على وجه هذه الأرض، البدائي منها والمتحضِّر، الغني منها والفقير، هناك جملة من المعايير والقيم والقواعد التي تضبط سلوك الإنسان وتحكمه، وتبيّن له حدود الزلل والاستقامة، الصح والخطأ، الحسن والأحسن، هذا عطفاً على القوانين والتشريعات التي تتطلّع إلى المزيد من استقامة الحياة ورقيها، ورفاهية الإنسان وسعادته.
وعلى الرغم من أنّ الخبرة البشرية تزخر بالكثير من معايير ضبط السلوك وتقويمه، وفي مجالات الحياة كافة، إلاّ أنّ درجة التزام الإنسان بهذه المعايير واحترامه لها تختلف من مجتمع لآخر، بل إنها تتفاوت في المجتمع الواحد، ومما يدل على هذا التفاوت والتباين في مدى الحماسة لاحترام الأنظمة والتشريعات والالتزام بها، أنّ هناك مجتمعات يتواتر عنها ويغلب على أهلها احترام الأنظمة والقوانين، وكأنّ كل فرد فيها على قلب رجل واحد في درجة الاحترام والالتزام، وهناك مجتمعات يتواتر عنها ويغلب على أهلها التعدِّي العلني على الأنظمة والقوانين وعدم المبالاة بها، بل إنهم من فرط تجاوزهم وتعديهم جرأوا غيرهم ممن يعهد فيهم ويعرف عنهم احترام الأنظمة والالتزام بها، فإذا بهم يسايرون ويقلّدون في التجاوز والتعدّي ولسان حالهم يردد طالما أنّ أهل الدار هذه شيمهم فلا ضير من تقليد أفعالهم حتى وإن خالف ما تربينا على الإيمان به.
أنظر إلى قيادة السيارات وحال السائقين معها في الشوارع، وأخص من تم استقدامه باعتباره سائق أسرة أو نقل عام، ترى العجب العجاب، لم يَعُد جلّهم يحترم آداب القيادة وأنظمتها، فمخالفاتهم تبدو جلية في السرعة الجنونية، قطع الإشارة، والتجاوز من يمين، والدخول الاستفزازي القسري من جهة اليمين عند إشارات المرور، رمي المناديل وعلب السجائر والمشروبات الغازية من نوافذ السيارة، دون اعتبار لنظافة الشارع أو أذى الآخرين.
يطول استعراض الشواهد والصور التي تعكس الإصرار على مخالفة الأنظمة والقوانين والآداب العامة، صور تختلف في نوعها وكمّها، كلها يثير الاشمئزاز، ويرفع الضغط، ويبعث في النفس الألم والإحباط واليأس من إمكان الضبط والسيطرة على هذه المخالفات التي تشوّه صورة المجتمع وتسمه بسمات لا تتوافق البتة مع موروثه الثقافي والحضاري، الذي يؤكد على قيم الانضباط ويعلي من شأنها، ولا مع ما يفترض أن يكون عليه المجتمع من رقي التعامل وسمو في السلوك.
ومما لا ريب فيه أنّ الإنسان السوي لا يمكن أن يتحمّل رؤية المخالفات والتجاوزات ويصبر عليها، لابد أن يكون له موقف تجاهها، ومن هذا المنطلق، فالناس أمام رؤية المخلّفات وتقييمها ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: يرى المخالفة، ولا تثير انفعاله، ويمر بالمخالف، ولا يلتفت إليه حتى ولو لمجرّد النُّصح، فضلاً عن الإعراب عن الامتعاض وعدم الرضا، السبب أنه لا غيرة عنده ولا إحساس ولا شعور، وكأنّ الأمر لا يعنيه البتة، هذا موقف في منتهى السلبية وعدم الشعور بالمسؤولية المجتمعية.
الصنف الثاني: يرى المخالفة، تستثير انفعاله, ويمر بالمخالف، ويلتفت إليه قائلاً: الشرهة ما هي عليك، الشرهة على.. ويوجِّه اللوم للجهة المختصة التي تعنيها المخالفة، هذا الموقف يُعَد هروباً من مواجهة الموقف المخالف، فبدلاً من معالجته يلجأ إلى تحميل الآخر الغائب عن الحدث مسؤولية حدوثه.
الصنف الثالث: يرى المخالفة، ولا يكتفي بالانفعال، بل يدون المخالفة ويتخذ إجراء فورياً مع المخالف، إما بالمناصحة، أو بالتواصل مع الجهة المختصة يشعرها بما حصل، من أي صنف أنت؟ ألم تقرأ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.