روسيا الاتحادية هي مُعضلة نفسها. معضلتها جغرافيتها، التي تمتدّ عبر كامل شمال آسيا و40 بالمائة من أوروبا، لذلك هي تتألف من أعراق وطوائف وأديان ومذاهب متنازعة بعضها مع بعض. معضلة ثنائية الشرق والغرب طبعت التاريخ الروسي
بطابعها الشديد الوطأة على تكوين الشخصية الحضارية الروسية. أفرزت هذه الثنائية النزعة السلافية، والغرْبنة (من الغرب) والآسْيوية (من آسيا). روسيا، التي تُشكل مساحتها سدس الكرة الأرضية، كلما اقتربت من الغرب وتشرّبت قيم العقلنة والبراغماتية، تجد نفسها أقرب إلى النشاط في مجال الحرية والسلوك، داخلياً وخارجياً، ما يُحرّك مشاعر العداء عند طوائف وإثنيات. إن علاقة روسيا بكل من الشرق والغرب مُعقدة جداً، ولها أبعاد متنوعة تُحدث موجات من التشاؤم والتفاؤل، تمتد على مساحة الوعي والسلوك لكل من “المُغرْبنين” و”المُشرْقنين”، وحتى لدعاة التناغم والتكامل بين هؤلاء وأولئك.
التيار المتشائم المُتغرْبن، الذي اتّسع حضوره المناوىء مع “نجاح” بوتين في انتخابات الرئاسة الأخيرة، يعتبر أن السنوات الخمسمائة الماضية من التوسّع الجيو سياسي الروسي انتهت، إلى غير رجعة، ولم يبق أمام روسيا غير الحفاظ على وحدة أراضيها وثقافاتها، ومحاولة “استعادة” شيء من مواقع النفوذ التي خسرتها روسيا مع جيرانها.
تعداد سكان روسيا (143 مليون نسمة على مساحة 17 مليون كيلو متر مربع) في تناقص مستمر. وثمة ضعف في البنية التحتية لمعظم الأراضي الروسية، وانشقاقات حادة فكرية وسياسية ودينية بين كل الشعوب (بلى: الشعوب) الروسية، وضعف واضح في جميع المؤسسات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وهجرة متزايدة من أصحاب الكفاءات والعقول إلى الخارج، وافتراق عن موسكو من قِبل عدد من الدول والقوى التي كانت على علاقة عضوية مع الاتحاد السوفياتي، حتى إن بعضها وطّد صلاته بالحلف الأطلسي، وتركيا، والصين، واليابان، ودول إسلامية، والولايات المتحدة. ويرى المناوئون لبوتين أنه يتلاعب بثروات البلاد الناتجة من بيع الغاز والنفط والمواد الأولية، ويُعادي العالم كله من أجل مجموعة من القتلة والمجرمين في عدد من دول الشرق، ولا سيما في العالم العربي، وآخر هذه المجموعات النظام العلوي في سورية الذي يفتك بشعبه. يقول هؤلاء “المُتغرْبنون” أن لا حل لخروج روسيا من مآزقها، إلا بانضمامها إلى حلف آمن وجار قوي. ويعنون بذلك أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
في رأي كثيرين أن على روسيا أن تُبادر إلى الاستفادة من عِبَر تاريخها، وكذلك من عِبَر التاريخ الإنساني، لتبدأ بالمصالحة الهادئة مع ذاتها، وتحريرها من التعلّق بنهايات الأشياء والتطرف في اتخاذ الخيارات، وعدم التنطّح للعب دور البشير الأممي “العادل”.
“إبان محادثاتنا ومفاوضاتنا معهم يقول الرئيس المصري الراحل أنور السادات كان الروس يَغْلون، أمام أعيننا، أكوام الثلج فوق نار حامية، ومن ثم يبيعوننا فوراً ماءه الحارّ على أنه.. ثلج”.
إن روسيا هي التي ما زالت تبيع النظام العلوي في سورية الماء الحارّ على أنه ثلج، وهي التي عطّلت دور مجلس الأمن، وتتحمّل مسؤولية استمرار قتل الشعب السوري، بتعطيلها الحلّ السياسي، وتشبّثها بلغتها الخشبية الستالينية.
Zuhdi.alfateh@gmail.com