منتديات فاس التي نعقدها سنويًا تتناول موضوعات الساعة وتحاول جاهدة إبراز خصوصياتها والخروج بحلول جذرية تمكن الخاص والعام من تجاوز الأفكار والحوادث المحدودة وإيجاد حلول دولية لمشكلات محلية وعالمية؛
ومنتدى فاس المقبل الذي سينظم في شهر ديسمبر وبشراكة مع رابطة العالم الإسلامي التي تقوم بدور عربي وإسلامي وعالمي بارز في الدعوة إلى الوحدة العربية والإسلامية ونشر ثقافة السلم وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، سيخصص لموضوع له الكثير من الدلالات ويحمل العديد من الأبعاد، وهو موضوع التربية والتعليم وتنمية المجتمع.
ولا غرو أن المنظومة العربية يجب أن تبدأ جادة في موضوع إصلاح أحوال العرب والمسلمين وعلى رأسها حال جامعة الدول العربية وأن يكون هذا الموضوع حجر الزاوية في أولوياتها ومبدأً رئيسًا في كل الاجتماعات لاجتثاث كل المساوئ التي ضربت جذور النظام العربي وخلقت حالات من الالتباس والارتباك في فقه الأولويات والاضطراب في العلاقات العربية - العربية وبتر عجلة النمو والتنمية المستدامة؛ وصاحب كل هذا اضطراب في العلاقات العربية مع الغرب في عالم معولم يعطي الأولوية للتكتلات البناءة والتجمعات القوية؛ وهذا خلل خطير يحتاج منا جميعًا وقفة تأمل ومراجعة مع الذات ونقد متمكن وإرادة سياسية حقيقية لتقود الجامعة بذلك سفينة التنمية في عالمنا العربي؛ وبإمكاني أن استشهد في هذا المقام بما قاله السيد عمرو موسى في قمة تونس لسنة 2004م وكانت كلماته معبرة: “اسمحوا لي أن أمضي في الحديث بكل صراحة: إننا نعاني أزمة ثقة فينا، وفيما بيننا، نعم لقد وصل الأمر إلى درجة غير مسبوقة في تلاعب قوى دولية في قضايانا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ربما استخفافًا برد الفعل العربي أو توقعًا له ردًا مضطربًا بين المعلن والخفي وبين الحاسم والمتردد، مما أوقعنا في لجة من التناقضات، ثم إن الأمن الإقليمي مهدد ومعه الأمن القومي العربي، ولا يجب أن نتسامح أو ندير ظهورنا لمشكلات كبرى تمس الكيان العربي بذاته دون وقفة أو وقفات حاسمة تتبنى مواقف قوية تضع في الاعتبار توجهات الشعوب العربية ومناداتها بالإصلاح الشامل لكي نحافظ على المصالح العربية ونحقق السلام والاستقرار في المنطقة كلّها، إن المواقف القوية لا يمكن أن تضر طالما كانت رصينة وعاقلة، والحفاظ على مصالحنا لا يمكن أن يكون محل نقاش أو تردد”؛ صحيح أن هذه الكلمات ما كان لها الصدى الملائم آنفًا:
وإذا السيوف تكسرت أنصالها
فشجاعة الكلمات ليست تفيد
ولكن تطلعات الشعوب الآن في البيت القطري الداخلي كما في البيت العربي والإسلامي الكبيرين والتغيِّرات الحاصلة ستخلق واقعًا عربيًا ونظامًا إقليميًا جديدًا ولا داعي أن نبقى في صراعات بين دول مختلفة الأنظمة والاقتصاد، فلقد أضر ذلك بالبلدان العربية والإسلامية أيما ضرر ولم تعد الشعوب على استعداد لتقبلها مرة أخرى. ثم إنه لا يمكن أن يختلف اثنان إذا قلنا إنه من بين أولويات العالم العربي والإسلامي اليوم هو إصلاح منظومة التربية والتعليم واحكام إستراتيجيات اقتصادية واجتماعية لتنمية المجتمعات، فالعالم العربي والإسلامي في حاجة إلى تطوير التعليم لأن نهضة الأمم تكون بالتربية والتعليم وبهما تنمو المجتمعات وتزدهر؛ ولنأخذ مثالاً الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، حيث نجد أن البحث العلمي المتقدم وجودة التعليم هما أساسان في قوة الاقتصاديين وهيمنتهما؛ وتأكَّد معظم التقارير الصادرة من البنك الدولي وغيرها من المؤسسات على ضعف مستوى التعليم في عالمنا العربي؛ كما يحتاج نظام التعليم العربي إلى إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية؛ وعلى الرغم من أن معظم الأطفال في العديد من الدول العربية استطاعوا الاستفادة من التعليم الإلزامي، وتقلصت الفجوة بين تعليم الذكور والإناث، إلا أن الدول العربية ما زالت متخلفة عن كثير من الدول النامية في هذا المجال؛ كما خصصت الدول العربية 5 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي، و20 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم خلال الأربعين سنة الماضية؛ وتوجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في العالم العربي وبيَّن ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية؛ كما تشير التقارير إلا أن أحد أسباب ضعف العلاقة بين التعليم وضعف النمو الاقتصادي هو انخفاض مستوى التعليم بشكل كبير.
فالمطلوب من العالم العربي الآن هو البحث عن قاعدة تعليمية صلبة ومتمكنة، وهذا يستلزم جهدًا كبيرًا من كل المعنيين بشأن التعليم لمعرفة مدى ملائمة المناهج التربوية والنظام التعليمي المسطر مع الأهداف المرسومة والإستراتيجيات المرجوة، وهذا العمل يقوم به باستمرار مثلاً القائمون على الإدارة التربوية العامة في أمريكا وفي اليابان، خاصة إذا استحضرنا نسبة الأمية التي تصل في بعض الأقطار العربية إلى 60 في المائة في حين أن هذه النسبة تنعدم في الدول الصناعية، كما أنه ليس لدينا أي تصور في إعداد وإيجاد الحلول للمشكلات المستعصية في السياسات التعليمية.
وهذا الجانب يحيلنا على معادلة أخرى وهي التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي في عالمنا العربي؛ والتنمية المستدامة هي التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقوة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة وهي ترتبط ارتباطًا وثيقا أيضًا بالنمو الاقتصادي.
على العالم العربي والإسلامي أن يمأسس لنظم اقتصادية وتنموية متماسكة وأن يدمج شعوبه في عملية التنمية وفي سيرورة سياسية واجتماعية واقتصادية مندمجة تقوم بتحسين شروط الحياة بشكل دائم ومستمر وتقوية مختلف المجالات المجتمعية بما فيها الاقتصادية والبيئية... فهي استثمار لكل الموارد من أجل الإنسان.
وإذا كنا نتحدث هنا عن النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة فحري بنا أن نتحدث أيضًا عن النمو التشاركي والتنمية التشاركية والمبنيتين على المقاربة التشاركية؛ فشركة الطيران الفرنسية الإيرباص التي مقرها بتولوز الفرنسية لا تصنع الطائرات لوحدها وإنما صناعتها نتيجة تعاون مع عدة دول أوروبية مشتركة؛ فلماذا نحن العرب لا نخلق شركات عربية تسهم في الالتحاق بالركب الصناعي العالمي ولنا من الإمكانات البشرية ما تسمح لنا بذلك؛ والمبدأ المركزي في النمو والتنمية التشاركية هو تقاسم المعرفة وسلطة اتخاذ القرار وتقاسم الإمكانات المالية، وكل هذه المعايير موجودة في عالمنا العربي، لذا فتساؤلنا الكبير مع المختصين العرب والأجانب من كل القارات والذين سيشاركون معنا في منتدى فاس المقبل هو كيف يمكن أن ندمج ذوي الكفاءات الكبرى ومن بينهم المهاجرون من أصول عربية وإسلامية في تنمية بلدانهم وأوطانهم الأصلية في إطار من التشاركية البناءة بين الشمال والجنوب، وبعيدًا عن النفاق الذي يطبع مثل هذا النوع من التعاون.
إن وطننا العربي له كل الإمكانات المطلوبة ويكفي زيارة شركة الإيرباص أو شركة بوينغ أو شركة رونو وفولفو لصناعة السيارات، حيث ستجد العرب يشتغلون في كل جزئيات التصنيع والتخطيط والتسيير وإذا ساءلتهم فستجد عندهم رغبة أكيدة لاستثمار معارفهم خدمة لبلدانهم ولوطنهم العربي؛ فالمنتدى سيدعو إلى سياسة عربية - إسلامية موحدة تمكن من انبثاق ونمو وإدخال كل الطاقات البشرية العربية والإسلامية في مجال التنمية التشاركية ونكون بذلك قد حققنا وسائل للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح لها، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل وأيضًا زيادة قدرتها على التحكم والسيطرة على نمو المجتمع. فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييرًا جذريًّا في بناء اقتصادي قوي؛ كما تكون السياسة التنموية تعبيرًا عن آراء المواطنين واستجابة لحاجياتهم؛ وتنفذ تلك التنمية موازاة مع تشريعات ضامنة وجريئة ومؤسسات موازية تفعل فيها مبادئ المساءلة والشفاف.