كان مما أشرت إليه في الحلقة الأولى، التي نُشِرت يوم الاثنين الماضي، كتابات كُلٍّ من الكاتبة الكريمة مرام مكاوي في صحيفة الوطن حول تأثير اللغة الأجنبية السلبي على اللغة العربية لدى من درس بغير هذه اللغة وعلى تفكيره،
الدكتور محمد العيسى الذكير في مقالته المنشورة في صحيفة الجزيرة حول “الدعم لعالمية اللغة العربية وتشوييها في تعليمنا العام”، والدكتورة عزيزة المانع في مقالتها المنشورة في هذه الصحيفة، أيضاً، حول اللقاء العلمي الذي أقامته وزارة التعليم العالي مؤخراً عن التعليم وما اتَّصف به من سلبيات تجاه لغتنا العربية كان جديراً بتلك الوزارة أن لا تكون طرفاً في ممارستها؛ ناهيك عن أن تكون الممارسة تحت لوائها.
وكنت قد أشرت، قبل ذلك، في حديثي عن اللقاء العلمي، الذي أقامته الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عن “اللغة العربية ومواكبة العصر”، إلى ما كتبه عالمان جليلان؛ هما الدكتور أحمد الضبيب والدكتور راشد المبارك، حول ما تواجهه لغتنا العربية في مهدها.
والغيرة على اللغة العربية، التي هي لغة أُمَّتنا العربية، والركن الأساسي لهُويَّة هذه الأُمَّة، متغلغلة في نفوس المخلصين من أبنائها؛ سواء كانوا في بلدان عربية تنطبق أفعال قادتها مع أقوالهم في هذا الشأن، أو في دول عربية تتعارض أفعال المسؤولين فيها مع ما يُردِّدونه من أقوال.
ولقد كان من الأَدلَّة على تلك الغيرة مقالة جميلة كتبتها الأستاذة فادية المليح حلواني في صحيفة الحياة بتاريخ 14-6-1433هـ - 5-5-2012م تحت عنوان “اللغة العربية والعلوم الدقيقة.. التعريب والتعليم العالي”.
وقد بدأت تلك المقالة بذكر عظمة اللغة العربية ومكانتها التاريخية، التي يفترض أن تَظلَّ لها في الوقت الحاضر. ثم ذكرت التحدِّيات الكثيرة المختلفة التي تواجهها في عقر دارها. وفي طليعة هذه التحدِّيات اللغات الأجنبية؛ لا سيما من خلال ما افُتِتحَ من فروع لجامعات أجنبية ومن استمرار الجامعات العربية في تدريس العلوم الطبِّية والهندسية بلغة غير عربية بحجج مختلفة أهمَّها أن هذه العلوم موضوعة أساساً باللغات الأجنبية ويصعب ترجمتها.
(قال كاتب هذه السطور: ليت الأمر وقف عند تدريس العلوم التي أشارت إليها الكاتبة الكريمة باللغة الأجنبية لكنه امتد إلى أن تقدم جامعة في مهد اللغة العربية على تغيير لغة التدريس فيها من العربية إلى الإنجليزية في جميع مواد الدراسة؛ بما فيها التاريخ الوطني والإسلامي؛ بل وقسم اللغة العربية نفسه باستثناء مسارين فقط من مسارات المواد المدرَّسة فيه).
وكان رَدُّ الكاتبة الكريمة على تلك الحجج التجربة السورية في تعريب التعليم الجامعي، التي ساعدت المتخرج على التواصل مع مجتمعـه ومشكلاته. وقد ذكرت ما قامت به وتقوم به مجامع اللغة العربية من جهود في تعريب المصطلحات وأسماء المخترعات، كما أشارت إلى تأسيس مراكز وجمعيات علمية من أجل الإسهام في ذلك التعريب؛ منها المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر بدمشق التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومركز التعريب في الرباط. وقالت: إحساساً بأهمِّـية عملية التعريب في إطار رفع مستوى العلاقة الإيجابية بين التعليم العالي والمجتمع العربي وتطوير العملية التعليمية وحماية الهُويَّة الوطنية - بحكم أن اللغة العربية أحد أهم ركائز تلك الهوية - توالت الندوات والمؤتمرات وحلقات العمل في دراسة التعريب وقابلية اللغة العربية للتطوُّر ومواجهة تَحدِّياتها؛ سواء من العامية أو الفرنكوفونية أو من دعوات الإثنية القديمة.
وفي إطار ذلك تَحدَّثت الكاتبة الكريمة عن ندوة نَظَّمتها الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية بالتعاون مع كلية العلوم في جامعة شعيب الدكالي حول موضوع اللغة العربية والعلوم الدقيقة في الشهر الماضي.
وقالت: إنها تناولت موضوعات مُتَّصلة بعلاقة اللغة بالتنمية ودورها في صيرورة المجتمعات نحو التقدم وتَجنُّب الهدر المعرفي؛ تحصيلاً وتدريسا. وإن التقارير الصادرة عن منظمات أُمميَّة ومؤسسات متخصصة تكاد تجمع على شذوذ الحالة التي عليها الدول المُحتلَّة سابقاً من اعتمادها على لغة المحتل في التعليم والبحث والاقتصاد؛ خلافاً لما عليه الحال في الدول المتقدمة، أو التي لم تعرف الاحتلال، كما تُؤكِّد حجم الخسارة التي تَتكبَّدها هذه الدول باعتماد لغة غير اللغة الوطنية؛ ناهيك عن تكريس التبعيَّة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
ومع إدراك كاتب هذه السطور لغيرة الكاتبة الكريمة على لغة أُمَّتنا، وتقديره لما ذكرته، فإنه يودُّ أن يقول: إن مما يلفت النظر - وفق ما يعرفه - أن رئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية ليس من أصل عربي، وأن رئيس الدفاع عن اللغة العربية في الجزائر، أيضاً، ليس من أصل عربي. وهذا أكبر دليل على وجوب النظر تجاه موضوع اللغة من منطلق انتماء لأُمَّة لا من منطلق عنصري ضَـيِّق. وإن مما يلفت النظر، أيضاً، أن الجزائر، التي استهدف الاستعمار الفرنسي لغتها، وحاول القضاء عليها بالدرجة الأولى، برهن شعبها بمجموعه على تَمسُّكه بلغـته. ومن علامات هذا التمسُّك الجميل الإيجابي أنك تشاهد الإخوة الجزائريين في المؤتمرات؛ وبخاصة المعقودة في بلدان عربية، يتكلمون بغلة عربية فصحى. وإضافة إلى ذلك فإن سوريا؛ وهي من الدول التي ابتليت بالاستعمار الغربية فترة مُعيَّنة، تضرب مثلاً رائعاً في التمسُّك باستخدام العربية في التدريس. وإن هناك من الدول العربية ما لم يُدنِّس أرضها استعمار غربي ومع ذلك فإن المسؤولين فيها عن التعليم لم يعد لديهم مانع في أن يكون التدريس في بلدهم بغير لغتهم الأم. وكان ما تَمَّ أخيراً في المؤتمر الذي عقدته وزارة التعليم العالي عن التعليم في الرياض، وتَحدَّثت عنه الدكتورة عزيزة المانع، من الأدلَّة الواضحة على تفضيل اللغة الأجنبية على اللغة العربية. إنها القابلية للتبعيَّة الفكرية، التي ليس من السهل علاجها. ذلك أن من الافتنان ما قتل.
ومما ذكرته الكاتبة الكريمة، فادية المليح حلواني، في مقالتها أن التجارب في ميدان تدريس الطب بالعربية خلصت إلى أن ذلك مُهـمٌّ في تكويـن الطبيب وفي الاستفادة من الوقت المخصص للتكوين، وأوضحت أن كتب الطب لا تحوي إلا 4 في المئة من المصطلحات التقنية والفنية في المؤلفات، وأن البقية داخلة ضمن القاموس العام واللغة العادية.
واختتمت مقالتها بقولها: إن المداخلات في المؤتمر، الذي عقد في المغرب، أجمعت على صحة تقارير الأمم المتحدة والمؤسسات المتخصصة والأبحاث الإحصائية والتجارب العلمية للباحثين بأن موقع المسألة اللغوية هي في قلب المشروع التنموي، وأنه لا نجاح لمثل هذا المشروع بالاعتماد على غير اللغة الوطنية، وأن اللغة العربية تملك كل مُقوِّمات الاستجابة لحاجيات التواصل العلمي، وأن العمل على اعتمادها لغة التدريس والتكوين ضرورة معرفية. وأسفت على عدم تنفيذ ما نادت به مؤتمرات عديدة في هذا المجال.
أما ما يختتم به كاتب هذه السطور حلقة كلامه الآن فهو أنه مقتنع كُلَّ الاقتناع بأن الدعوات إلى تمكين اللغة العربية من احتلال مكانتها اللائقة بها في مهدها يكاد يكون صداها مُتَّفقا مع قول الشعر محمد العبد الله القاضي، رحمه الله؛ مُعبِّراً عن عدم تجاوبه مع من كانوا يلومونه على عدم سماعه لنصح من ينصحونه في دنيا غرامه بمن يحب:
والله ما اسمع هرجكم لو تلجُّون
بالصوت يندب منكم الشيخ والشاب
إلا أن سمع فرعون ما قال هارون
أو يسمع الميِّت بنا صوت نَحَّاب