الهمسة الأولى
- قيل لي مرةً: بم تنصح شباب اليوم في زمن يعجُّ بالمحن، ما ظهر منها وما بطن؟! فقلت: هذا سؤال عريض عرض الفضاء، وهناك مشاعر كثيرة يختزنها الخاطر عن هذا الجيل، منها ما يسر، ومنها ما يستحق وقفات يتقاسمها شيء من التأمُّل وشيء من القلق حول حاضر هذا الجيل ومستقبله.
***
- لكن حبي لهذا الجيل وتفاؤلي به وخوفي عليه، يلهمني الرغبة في التحدُّث إليه اليوم حديث الناصح الأمين ذي التجربة المتراكمة عبر السنين، فأقول:
أولاً يجب أن تعوا جميعاً أنّ الحياة بكلِّ فصولها وصروفها وأطيافها، صراط تنتشر على ضفافه العقباتُ.. منذ أول صرخة يطلقها الوليدُ إيذاناً بتجاوزه محطة الرحم.. وحتى آخر لحظة يواجه بها ربَّه ! ولولا هذه العقبات وما يتخلّلها من مواقف انتصار وانكسار، ما كانت الحياةُ زينةً ولا متاعاً!
***
- ثانياً: لا تستعجلوا النجاح تمنّياً، ولا تستْسْهلوه ارتجالاً، فما نيلُ المطالب بالتمنّي، ولكن تُؤخذ الدنيا غلاباً!
***
- ثالثاً: تذكَّروا دائماً أنّ الجامعة ليست كلَّ شيء.. يُنشد من خلاله النجاح، وليست أيّ شيء ينتهي بالنجاح، بل هي جزءٌ من معادلة حياتية قد تتوّج بظفر.. وقد تنتهي بفشل، وهي بعد كل شيء وسيلة، إنْ أحسَنتُم استثمارها، أحسنَتْ إليكم.. وإنْ كان الأمر عكس ذلك، تجاهلتْكُم.. وتنكَّرت لكم، وولّت الأدبار بعيداً عن حياتكم مخلفةً وراءها (أوراماً) من الألم والندم!
***
- رابعاً: احترموا آدابَ العمل وأخلاقياته، وفروضَه ونوافلَه، فالعمل النافع صراط تتحقّق به الذات.. وتسمُو! لا تدَعوا ألسنتكم تتحدث عنكم لتزكِّيكم وتقرِّبكم إلى من يعنيه أمركم، وحده إنجازكم بعد الله، هو الشافع والشفيع لما تنشدونه من حظ وما تتمنّونه من حسن الجزاء!
***
الهمسة الثانية:
- أزعم بدءاً أنه ليس بوسع امرئ سويّ أن ينكر على وجدانه أو يستنكر (خفقة حب) بريئة تلازم قلبه في غدوه ورواحه، وحتى آخر لحظة في حياته ! والأمثلة لذلك كثيرة، أولها وأهمها وأسماها حبُّ الله عزّ وجلّ، وحبُّ رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، ثم حبُّ الوالدين والزوجة والولد، وذوي القربى، وأخيراً من (يستحق) الحبَّ من البشر!!
***
- لكن، هنا أسئلة تقطر وجعاً وتحدِّياً، هي:
- هل يملك أحدنا القدرة أن يحبّ أقل مما يكره؟ أو أن يكره أكثر مما يحب؟!
- كيف يتعامل أحدنا مع من (يظن) أنه يكرهه بلا سبب، أو أن يحبه إنسانٌ آخر أو يكرهه بلا سبب؟!
- هل من العقل في شيء.. أن يظن أحد منا أن من لا (يظهر) له الود فإنه حتماً (يضمر) له الكره ؟!
- وأخيراً، هل يجوز أن نتعامل مع معادلة الحب في حياتنا بثنائية (الأبيض و الأسود) لنستنتج تبعاً لذلك أن من لا يحب فإنه يكره!
***
الهمسة الثالثة:
- هناك من البشر مَنْ قد يفتعل (الصّمت) الغامض أو الغموض الصّامت ظناً منه أنه يضفي عليه هالة من الوقار يحض الآخرين على احترامه ! فإذا نطق وأفاض في النطق، فقد يقدم بذلك البيّنة للحكم له أو عليه من قبل المتلقِّي لخطابه، فإما زاده ذلك هيبةً ووقاراً أو صادر منه ما خلعه هو على نفسه من وقار زوراً وخداعاً يغلفهما إمساكه عن الكلام المباح وغير المباح!
***
- ولنا في موقف الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أبلغ عبرة حين أقبل عليه أعرابي (مرصع) برِداء يسرّ الناظرين، وكان الإمام يجلس مع نفر من تلاميذه ومريديه، وقد مدّ إحدى قدميه استرخاءً، فلما رأى الأعرابي قادماً صوبه، كفّ قدمَه احتراماً له، ثم جلس الأعرابي.. والناس من حوله مشدُوهون بما رأوا منه وبما فعله الإمام تقديراً له، وكل منهم كان ينازعه السؤال عن هوية الرجل الغريب! لكن دهشتهم تضاءلت حين سأل ذلك الرجل الغريب الإمام سؤالاً كشف عن ضحالة في العلم وضآلة في التفكير! فما كان من الإمام أبي حنيفة إلاّ أن أعاد قدمه حيث كانت، وهو يردّد: مقولته الشهيرة.. (إذاً يمد أبو حنيفة قدمه ولا يبالي) استهزاءً بالسائل والسؤال!