لا يمكن تجاوز حقيقة وجود صراع في المجتمع السعودي؛ فالأحداث تتكلم عن احتدام تدافع غير ظاهر بين القوى في الوطن، وقد تدخل الانقلابات الفكرية المتوالية في مقدمة مريرة للمرحلة القادمة، كان آخرها الخروج المستغرب وغير المبرر للشيخ العبيكان ومخالفته منهجه السلفي في تقديم النصيحة السرية، وما صاحب خروجه الإعلامي من هجوم شديد اللهجة على شخصه، وما تلاه من كشف لأوراقه القديمة وفتاويه وآرائه ومواقفه. ومن أجل أن يتضح ما أود الوصول إليه الاطلاع على رد الشيخ سعد البريك، الذي وصف من يقومون بمهاجمة الشيخ عبدالمحسن العبيكان بأنهم كهواتف العملة، ما إن تم شحنها حتى بدأت في الردح، وأنقل عن الشيخ قوله: “إن الشيخ عبد المحسن استفز أخطبوط الفساد، فأوعز الأخطبوط إلى هواتف العملة، تأخرت الهواتف قليلاً حتى تم الشحن، وبعدها بدأ الردح”. سأترك للقارئ أن يقرأ ما بين السطور، ما حاول الشيخ البريك التصريح به.
***
قد لا تحتاج الصورة إلى توضيح أكثر؛ فالقضية تدور حول طور صراع بدائي ووهمي بين الخير والشر، يخفي بين كلماته قضايا أكبر، لم تصل بعد إلى مرحلة الديالتيك أو الجدل المنطقي، وتقديم الحجج والبراهين المبنية على احترام الآخر في ظل نظام وقانون محدَّد وواضح للجميع، لكنها تقوم على قاعدة تقويض الآخر المنافس من أجل الوصول إلى الأهداف الذاتية، وقد لا يخفى على المتابع أنه منذ فترة غير قصيرة سيطرت على وسائل الإعلام جدلية الصراع بين الشر والخير، أو صراع الأفراد من خلال الأيدولوجيات، فالقطبية الحالية تدور صراعاتها حول السيطرة والوصاية على مفهوم الخير، على أن تحتكره فئة معينة، تعتقد بفوقيتها ومكانتها الروحية في توجيه العامة إلى الخير، ولا تتردد في تقديم الشهداء في سبيل انتصار الخير، ويظهر أن الرموز الدينية دخلت مرحلة الاستشهاد والتضحية ضد الأشرار التغريبيين، وعادة ما يتبع ذلك هجوم مضاد يصل إلى حد الهجوم الشخصي الجارح، وقد يحدث العكس، وهكذا دواليك.
***
لن أدخل في دوامة الهجوم المتبادل والعاصفة الإعلامية؛ لأنها قد تزيد جراح الوطن، في وقت نحن أحوج فيه إلى حماية مستقبله من دوافع المصالح الشخصية والمعارك الخفية وغيرها من الفصول التي أشبه ما تكون بصراع البيادق على رقعة الشطرنج، يموت خلالها الجنود والأحصنة وتسقط القلاع، بينما في حقيقة الأمر لم يكن المنتصر إلا العقل المتآمر الذي كان يحرك بيديه قطع الشطرنج، وقد تعلمنا من التاريخ القديم والحديث أن الصراع من خلال الأيدولوجيا يؤدي في النهاية إلى خسارة الجميع، كذلك تعلمنا أن التعبير عن الخلاف من خلال الصراع حول الخير والشر يعني البدائية وغياب الوسائل المدنية للاتصال والحوار حول المختلف حوله، لكنه يعني أيضاً أن العجز عن البوح به عدم عقلانيته؛ لذلك يتحول الاختلاف لا إرادياً إلى صراع بين الخير والشر، وتكاد تسيطر هذه الصورة على أغلب حوارات الاتصال في المجتمع، بدءاً من الجلسة العائلية وانتهاءً بالخطاب العام.
***
يحتاج الوطن إلى رؤية تبني ولا تهدم، وإلى أطروحات ترفع من درجة الانتماء للوطن، وأن يكون الحلم الوطني واقعاً يعيش فيه الأبناء والأحفاد في المستقبل، على ألا تقبل الوحدة الوطنية القسمة على ثنائية الخير والشر، وما يحدث من انكسارات في جدار الوطن لا يصب في مصلحة الأجيال القادمة، ولا يمكن لوطن أن ينهض وفي أحشائه صراع باطني بين أهل الخير وأهل الشر؛ فالمواطنون أخيار وأحرار تحت سيادة الدولة، وفي وسط هذا المخاض على وجه التحديد نحتاج إلى نقلة عاجلة في التنمية والإدارة، وإلى تنظيم مؤسسي يقف سداً منيعاً ضد أي محاولة لاختراق جدار الأمن الوطني. وفي النهاية ومن أجل الاستقرار أبعدوا حوار الخير والشر من الخطاب العام، وطهروا الدين الحنيف من صراعات الأفراد والطبقات والمصالح الخفية، على أن يتم تبني وسائل متطورة ومتحضرة لحل قضايا الصراع، يكون الصالح العام فيها الهدف الأسمى.