المفروض أن الأرقام لا تتجمَّل بل تعكس الواقع بوضوح وشفافية. ويفترض فـي الأرقام أن تعكس بشكل مباشر مدلولات الحدث دون تدخُّل الكلمات، كما يحدث فـي المجتمعات النامية التي يميل فيها الكلام إلى التهويل أو التمويه. وما يتبرع به البعض الآن بسخاء مفرط من ذكر أرقام تقريبية، جداً جداً، تصل إلى حد العشوائية، هو سوء استخدام واضح لهذه الأرقام لدعم كلام لا يقوم أصلاً على أسس علمية. وما أسهل تلاعب البعض بالأرقام وتسخيرها للوصول إلى حاجة فـي نفس يعقوب، وهو ما أشار إليه ديريل هوف فـي كتابه الطريف «كيف تكذب بالإحصاءات؟». وهذا ما نلاحظه فعلاً في بعض ما ينشر من أرقام عن مسائل اقتصادية حيوية مثل الوظائف المتاحة، البطالة، السكان، الاستثمارات. وإذا بُني الكلام على أرقام عشوائية، يأتي التحليل والاستنتاج، بالضرورة، فارغاً لا يملأ إلا صفحات الجرائد بمادة غثَّة لا تسمن ولا تغني من جوع، إن لم تكن مضلِّلة وتقود إلى رؤية غير صحيحة لا تعين صاحب القرار على معرفة الخلل وتشخيص الداء، وبالتالي لا تفيد فـي وصف العلاج الناجع الشافـي. هذه المشكلة حقيقية وهي نتاج من يدِّعي المعرفة ويتجنَّى على العلم ويكمل نقصه بما يسوقه من أرقام عشوائية دون مبالاة، ودون إدراك بأن وباله على المجتمع، والاقتصاد بالضرورة، أعظم ويتعدَّى وجوده. المفروض أن تبنى الأرقام على دراسات ميدانية تتم وفق الأسس والقواعد الإحصائية العلمية المتعارف عليها، بحيث تأتي ممثِّلة للواقع بقدر الإمكان وفـي إطار حدود وهوامش الاختلاف المقبولة علمياً. أما أن تُطلق الأرقام بشكل عشوائي، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على مستوى التحليل والاستنتاج وقراءة الأرقام والاستفادة منها فـي الوصول إلى نتائج قيِّمة وتوصيات قابلة للتنفيذ. ولذلك فإن الأرقام يجب أن يتم التعامل معها وضبطها بمهنية عالية. ولعل البداية تكمن فـي رفض هذا التعدِّي الفكري, والتوعية الشاملة بأهمية التخصُّص فـي العمل، وهو المبدأ الذي كان من أسس بناء الدول الصناعية المتقدمة. فإذا تبنِّى المجتمع هذا التوجه الرافض لغثاء التصريحات الرنانة، فإنه يشكِّل بذلك حصناً يقف حائلاً أمام اختراقات من لا يجيد إلا الكلام الفارغ يشتري به الوقت ليغطي على فشله أو ضيق أفقه أو نقص علمه.
- رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض