في المقال المعنون بـ»التجار الدعاة» أثار هموماً وأشجاناً تساؤلُ الأستاذ سلمان بن محمد العُمري في آخر مقاله في جريدة الجزيرة عدد (14463) في عموده الأسبوعي «رياض الفكر» حين قال: «.. وكم عدد المسافرين من ديار العرب والمسلمين للخارج..، وهل فكّر هؤلاء بدعوة غير المسلمين..إلخ»، وهي فطنةٌ لافتةٌ، وحِسٌ دعويٌّ يبعث رسالة للقارئ عن تفعيل دور المسلم «المسافر» في الدعوة إلى الله تعالى، حيث وأنَّى وجد، ولأي غرض سافر، وأُحبِّرُ فقط على كلامه بأمور:
أولاً: يا أستاذنا هناك جهودٌ فرديةٌ لا تُنكر، ومساع شخصية لا تُجْحَد، وفيها خير ولا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها، ولكنها تبقى غير فعّالة في عصرٍ صارت «مأْسَسَة الدعوة» من أهم سمات النجاح الدعوي.
ولن تؤثر دعوتنا اليوم -حتى في بلاد الإسلام- ما دمنا لا نعمل وفق منظومةٍ معينة شمولية، تُكْمل من حيث انتهى الآخرون، وترمّم ما انصدع من آثار السابقين، وتكتشف الطاقات والقدرات المتاحة فتوظّفها للدعوة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.
فجمع هذه المعلومات للمسافر الداعية قبل سفره ثم تلطّفه بالدخول والعمل ضمن من سبقه من العاملين يكون أدعى للنجاح، وأقوى له وأسرع تأثيراً وفاعلية، وفيه تقوية لمن سبقوه، واعتراف منه بفضلهم وسابقيتهم، واستفادة من مظلتهم وجهودهم وتجنب للتكرار وتحاشي للإخفاقات المتوقعة.
ثانياً: تمنهج الباطل وتجييشه وتمركزه اليوم، يتطلب منهجية في رصد طرق أهل الباطل للصد عن سبيل الله في الميدان الذي يكون فيه المسافر، قبل انطلاقته، فيعرف الداعية مشكلات البلد الدعوية سواء أكانت دعوته بين المسلمين أو غيرهم، فهناك بعض البلدان مشكلاتها - مثل الصين- في عرقلة النظام الشيوعي للدعوة، ولا يُسوغ أبداً لأي مسافر يريد الدعوة هناك، البدء بالكيفية التي يريدها مثل الزيارات المفتوحة، وإلقاء الكلمات في أي مكان أو توزيع مواد دعوية، فقد يعرّض نفسه والمدعوين للحرج نظاماً وقانوناً.
ولن يُعدم الداعية - والحمد لله- في أي بلد ظهيراً ومعيناً في السفارات والجهات الدعوية الرسمية مثل المراكز والمدارس الإسلامية ومكاتب الرابطة، يوجه المسافر الذي يحمل همَّ الدعوة للكيفية التي يفيد بها غيره ويستفيدون منه.
ثالثاً: يعتقد البعض أن الدعوة قالب أو نمط واحد يتمثّل في الخطاب الدعوي أو توزيع المواد الدعوية، لا! فالتشجيع دعوة، وتحسس نقاط القوة التي يمكن استفادتهم منها وسدها أو دلالة غيرك عليها دعوة، وترك الأثر الطيب دعوة، وسن إجراء معين في المكان الذي تزوره سنة حسنة وهو دعوة، أعرف مبتعثاً مباركاً في نيوزلاند، ما كانت تُقام صلاة الجمعة في المدينة التي يدرس فيها لقلة المسلمين وتشتتهم، فكانت زياراته الفردية لهم ودعوتهم لإقامة الجمعة، مع تفاهمه مع إدارة الجامعة التي سهلت له إجراءات صلاة الجمعة والعيد، فقامت هذه العبادات الجماعية بجهد ربما يكون بسيطاً فكان هذا أبلغ في الدعوة.
والتفاهم مع إدارة الفندق في سن إجراءات في الفندق مراعاة للنزلاء المسلمين، كمصلى أو تحديد اتجاه القبلة أو اللحوم المذكاة، والقنوات الهادفة، أو الخصوصية في الأماكن الترفيهية وشرح المسافر لهم لماذا شرعها الإسلام، دعوة لموظفي الفندق وإدارته.
والإحسان والتباسط والهدية والصدقة لمن تتعامل معهم، وتأليف قلوبهم لتهيئتها لقبول الخير ممن بعدك دعوة.
تقديم دورات ولو تطويرية في مهارات معينة يتقنها المسافر، يدربهم عليها ولو لم تكن شرعية أو دعوية هذه أيضاً دعوة.
الدعوة الفردية كثيراً ما نغفل عن أثرها العميق من تعليم جاهل نقابله - ولو لساعات - في وسيلة نقل أو نتعامل معه، فتتذاكر معه بلطف فروضاً عينية كالتوحيد والإيمان وما تصح به عبادته مثل تصحيح قراءة الفاتحة هذه يستطيعها كثيرون، وهي أقرب للإخلاص وربما أنفع للشخص نفسه من محاضرة يسمعها وفيها خير كثير ملموس هي أيضاً دعوة.
ترك انطباع حسن عن المسلم عند من تتعامل معه أو جمعك به الطريق أو السفر، فضلاً عن الإهداء له ولو لم تتكلم معه بكلمة عن الإسلام - إذا كان الجو غير مهيأ دعوة؛ لأن فيها تهيئة نفسية لقبول الدعوة وتلقي الخير من غيرك، فهو دعوة.
رابعاً: المسافر غريب..، ومدته مهما طالت محدودة بزمان وظروف غامضة لا يدري نهايتها، فيجدر به في دعوته تجنب الغوص في المشكلات المتجذّرة العميقة المتأزمة، ولو كان بنية المساهمة في حلها أو حتى وجدهم أدخلوه فيها؛ لأن البت والحسم فيها يتطلب مهارات وخبرات طويلة وممارسة، ويتطلب غالباً خسارة فريق أو جهة تشغب عليه، وهناك ما هو أولى منها، وهو الدعوة إلى محكمات الشريعة العامة مثل: مسائل الإيمان والفقه والأخلاق والفضائل والبعد عن المحرمات والكبائر والرذائل، وتصحيح المفاهيم، واستئناف الحياة وفق شريعة الإسلام ما أمكن، هذه محل اتفاق عند الجميع، والبدء بها أولى، وترتيب المنكرات التي عندهم حسب الشرع، وتنمية الخير والمعروف الذي عندهم وفق ما يرى له من أهمية ونفع متعد أولى.
وإنه لجدير بوزارتنا الموقرة «وزارة الشؤون الإسلامية» الاستفادة من خبرات دعاتها ومكاتبها في تبصير المسافر الداعية عن طريق عمل دورات قصيرة مكثفة - ولو عن بعد - خاصة مع قرب موسم الصيف للرقي بهمم المسافرين للدعوة إلى الله تعالى، وتعاوناً على الخير، وتفقيهاً للدعاة، وإعذاراً إلى الله تعالى.
وختاماً.. استصحاب المسافر لبواعث ودوافع الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وما فيها من الثواب والأجر، والقيام بمهمة الأنبياء وحراسة الدين، يقوّي العزيمة، ويذلّل الصعاب ويُستدام به العمل، وإذا كنا دائماً نستحث بدافع الأجر والثواب وفضل دعوة الناس للخير، فثمة باعثان ودافعان مهمان نغفلهما كثيراً، وهما:
1. دافع وباعث المساءلة بين يدي الله تعالى عن الدعوة حين يسأل الله الرسل وحتى أتباع الرسل، وهم نحن، كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، باعث أنها نجاة المسافر بين يدي الله حين يُسال عن ما يراه من السوء والكفر والمعاصي، كما قال تعالى {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.
2. وباعث أن المسافر الداعية إنما يقوم بما هو فرض لا فضل، وبواجب يؤاخذ المسافر بتركه، ولا يقل أهمية عن سائر الفروض العينية كالصلاة وسائر الواجبات، فالدعوة إلى الله تعالى اليوم -كما هي فتوى ابن باز وغيره- لما تخاذل الناس عن القيام بها، وفترت همم وعزائم الأخيار، وتفشت المنكرات، وعظم الاحتياج والطلب عليها مع انتشار الجهل، ارتقت من كونها فرض كفاية على الأعيان إلى فرض ولازم وحتم وواجب على كل فرد بحسب قدرته وطاقته، وهذا من دقائق فقهه رحمه الله.
د. محمود بن محمد المختار الشنقيطي