سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة - وفّقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد قرأت في العدد 14456 الصادر يوم الجمعة 6-6-1433هـ، مقالة للكاتب الأستاذ سلمان بن محمد العُمري بعنوان: (الاحتساب والاكتساب).. وملخّصه حول من يستغلّون حاجة الناس في التكسُّب غير المشروع، ولا شك أنّ المال عصب الحياة.. وكثيراً ما تتردّد أصداء هذه العبارة بين جنبات المجالس.. فيقولها الغني ليبرّر حرصه ودأبه في كسب المال.. ويقولها الفقير لعله يستدرّ بها عطف الآخرين فيقتطعون له جزءاً من عصبهم.. ويقولها الفيلسوف ليثبت أنّ المال يصنع السعادة.. حتى السارق يتكئ عليها ليتخلّص من تأنيب ضميره ويبيح لنفسه حمى غيره.. وبعض اللاهثين وراء الأرصدة قد تسوّل له نفسه بهذه الدعوى أن يغش، أو يكذب، أو يزوّر شهادة، أو يشفع شفاعة سيئة، أو يحلف يميناً كاذبة، أو يمتهن غير ما يتقن، أو يتزيّن بما ليس له بأهل، ومن تكلم بما لا يتقن أتى بالعجائب.. هذا وهو مجرّد كلام فكيف بمن يتجرأ ويفعل.. تباً لهؤلاء..!
ولا يستخفّ عاقل بالثغر الذي يسده المال، ولا بالقفل الذي لا يفتحه إلا المال، وإنما نقول: رويداً رويداً أيتها النفس التي وصفها باريها.. {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}. فإنّ نقاء المال الذي أحصل عليه وصفاءه من شوائب الحرام أولى من كثرة أصفاره.. فالمال الحرام يجلب ضغينة الأخ على أخيه، ويقطع الأرحام، ويخل بتوازن المال بين الناس، ويمنع إجابة الدعاء، ويمحق البركة ويزيد اللهث على الدنيا، ويمزّق الدين لأجل ترقيع الدنيا، فلا يبقى الراقع ولا المرقوع، والمال الحرام يلوّث إنسانية الإنسان، ويقطع دابر المعروف، ويغلق أبواب الإحسان {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، والمؤمن سمحٌ في بيعه وشرائه وقضائه {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، ومع هذا فهو كيِّسٌ فَطِنٌ، ليس خبّاً ولا الخبّ يخدعه، ولا يُلدغ من جحر مرتين، فإن سئل مالاً تحرّى فيمن سأله أهو من أهل الزكاة؟ أو الصدقة؟ أو الإقراض؟ وإن اشتهى التجارة تثبّت واستخار واستشار أهل الذِّكر، ولكل فن وعلم أهل ذِكر - ولا يضع بيضه في سلة واحدة.. فإن ربح وكسب علم أنّ هذا مال الله قد آتاه إيّاه {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وأنفقه في وجوهه الشرعية، ونِعم المال الصالح للرجل الصالح، وإن خسر صبر واحتسب، واستثمر خطأه لنفسه في مقتبل تجارته، ولغيره بالمشورة الحسنة، ولم يقلق على حياته وحياة من يعول، بل جعل الدنيا في يده ولم يدخلها إلى قلبه، وتوكّل على الله الذي يرزقه كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً، وريالٌ حلالٌ خيرٌ من ألفٍ حرامٍ في الحال والمآل.
د. هناء بنت عبد العزيز المطوع - أستاذة الفقه المساعدة بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن