من أغزر المسائل المعرفية تعرضاً للجدل والاختلاف في الإسلام المقابلة بين المعقول والمنقول في الأحكام والمعاملات المستنبطة من مصادر التشريع الإسلامي أو من أقوال كبار الأئمة. وقد أفرزت هذه المقابلة مواقف متشنجة لفريق يرى أن العقل أولى بالاعتبار في فهم النصوص من النقل - إذا تعارضا، وفريق يرى أن النقل هو المعوّل عليه إذا كان
أصله نصاً صريحاً أو فعلاً مشهوداً صادراً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه. ويمكن استخلاص موقف وسط بين الفريقين وهو أن تعاليم الإسلام وأحكامه في الأمور التعبدية التي تختص بالصلة المباشرة بين الإنسان وربه هي أسمى مرتبة من العقل، ومن ثم فلا مجال للحديث عن تعارض مع العقل، ويصبح دور العقل هنا هو التمييز بين طريق الصلاح وطريق الضلال: (وهديناه النجدين).
وليس البحث عن حكمة وراء ذلك غير الحكمة الربانية. أما غير ذلك من الأحكام والمعاملات فإنها تتطلب مقدرة عقلية حكيمة تتمكن من الفهم الصحيح لمعنى النصوص، وإدراك الغاية والمقصد من تشريعها، وتأخذ في الاعتبار راهنيّة السياق الزمني والمكاني الذي يطلب تطبيقها فيه. وهذا هو الذي أفهمه من القول بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. ولذلك أتصور أن كثيراً من التباين والتباعد في المواقف والآراء الاجتهادية المتعلقة بالأمور الدينية وما له صلة بها من أمور الدنيا يمكن أن يتضاءل ويمكن للأفكار المتعارضة أن تتصالح إذا انشرحت صدور الفرقاء للنقاش ومحاولة فهم ما يدلي به كل فريق دونما تشبث بالأحكام المسبقة أو بذهنية الخصومة المبنية على التعالي أو سوء الظن أو سوء الفهم. وسأعرض بعض الأمثلة والنماذج التي يتسع فيها المجال لاحتواء الاختلاف.
ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال لابن عباس -رضي الله عنه- عندما وجهه لمحاورة الخوارج: (لا تجادلهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه). فإن صحت هذه الرواية فإن هذا لم يكن يقصد به أن الآية تنزل بأكثر من معنى، بل إن الخوارج قد يحملونها على الوجه الذي يبررون به خروجهم ويؤولونها بما يسوغ أفعالهم - كما يفعل خوارج هذا الزمان وأشباههم من المتطرفين ذات اليمين وذات الشمال. التأويل المعتسف للنصوص ليس مجرد اختلاف بل هو اختلاق، ولا أتناوله في هذا المقال. بل الذين أعنيهم هم أولئك المجتهدون المخلصون الذين قد يختلفون في تفسير بعض النصوص حسب فهمهم لها بعد طول بحث وتدبر أو حسبما فهموه من تفسير من سبقوهم. ومن الأمثلة التي طال الأخذ والرد فيها قضية رؤية الهلال. ويستنبط مما كتب حول الموضوع أن الجميع لا يختلفون حول صحة حديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) بنصه الكامل (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا... وهكذا.. صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) وفي رواية أخرى (فإن غم عليكم فاقدروا له). ولكن يختلفون في فهم ما يلزم منه. فقد رأى الدكتورسعد القويعي في مقالتين نشرهما بصحيفة (الجزيرة) بتاريخ 9-4-1433هـ وتاريخ 5-5-1433هـ أهمية الأخذ بالحساب الفلكي - خاصة في تقرير نفي دخول الشهر، وأورد في بحثه الأسانيد العلمية والفقهية التي تدعم وجهة نظره. وقد رد عليه معالي الشيخ صالح الفوزان بنفس الصحيفة، كما رد عليه الدكتور محمد النجيمي بملحق جريدة المدينة (الرسالة) في 14-5-1433هـ. فالذي يقرأ النص الكامل للحديث قد يفهم منه أن الأمر بالاعتماد على الرؤية مقترن بوصف الأمة بالأمية (.. لا نكتب ولا نحسب) وهذا اجتهاد في فهم معنى النص في ضوء حيثياته وسياقه الزمني، ولا يخالف قاعدة (لا اجتهاد مع النص) - التي ذكرها معالي الشيخ صالح. أما الدكتور النجيمي فقد فهم من عبارة (لا نحسب) أن الحساب كان معروفاً في زمانهم (فلم يحل عليه ولم يعول في عبادة الأمة عليه). ولا يتفق هذا الفهم مع ورود عبارة (لا نكتب ولا نحسب) وقد وردت (لا) النافية في سياق تقرير أمية الأمة - فإن كان لا حاجة للحساب فلا حاجة للكتابة بدلالة واو العطف، وفي هذا الفهم تعارض مع كونه عليه الصلاة والسلام يقبل فدية الأسرى لأنفسهم بتعليم القراءة والكتابة لأفراد من الصحابة.
وفي موضوع آخر هو موضوع أهل الحسبة نلاحظ وجود عدم تطابق في الرؤى لاختلاف زاوية النظر إلى السياق الزمني والمكاني. ففي كلمة وجهها معالي وزير العدل إلى أهل الحسبة نشرتها صحيفة الجزيرة بتاريخ 10-5-1433هـ شدد معاليه على أهمية حسن تأهيل أهل الحسبة وحذر من الاحتساب العشوائي. وفي مقالة مفصلة نشرتها جريدة المدينة بملحق الرسالة في 14-5-1433هـ ذكر فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس أن عموم الآيات والأحاديث الدالة على الحسبة يشمل جواز القيام بالحسبة من (الفساق والمرأة والعبيد) تطوعاً بلا ولاية. والاحتساب التطوعي قد يأخذ في بعض صوره صفة الاحتساب العشوائي الذي حذر منه معالي وزير العدل. كما أني لا أظن أحداً سيصغي إلى محتسب فاسق. لكن عدم التطابق يبدو لفظياً وظاهرياً فقط بدليل أن فضيلة الشيخ السديس أكد على الآداب التي يجب أن يتحلى بها المحتسب وخاصة الإخلاص والقدوة والصبر. إلا أن ذكر الفساق والنساء والعبيد في عبارة واحدة قد يثير غيظ النساء- إذا فهمن أنه حطّ من شأنهن بعد أن بلغن شأواً بعيداً في العلم والمكانة الاجتماعية. وتظهر أهمية السياق الزمني والمكاني -أيضاً- عند ملاحظة ذكر العبيد مع أن الرق تم منعه قبل أكثر من خمسين سنة بالمملكة. ومن الأمثلة النموذجية لضرورة اعتبار راهنيّة السياق الزمني والمكاني مسألة الزواج من الصغيرات. ويستند المجيزون لمشروعيته إلى أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- تزوج من عائشة رضي الله عنها وهي أقل من عمر عشر سنوات. والاختلاف في هذه المسألة لا يدور حول فعل الرسول نفسه -وهو المعصوم من الخطأ- بل حول مدى ملاءمة نقل السياق الزمني والمكاني - الذي كانت فيه عادة الزواج من الصغيرات مقبولة وربما شائعة في مجتمع ذلك الزمان الذي كان حديث عهد بوأد البنات وحريصاً على سترهن باكراً، وكان أيضاً حريصاً على كثرة النسل الذي يتحقق بالزواج المبكر ويعوّض فقدان الأطفال بسبب الأمراض - إلى سياق زمني مختلف بفارق ألف وأربعمائة سنة من حيث سن النضج العاطفي والإدراكي والبيئة الاجتماعية. وتصوروا فتاة في الثالثة عشرة من عمرها -تجلس في الصف الأول المتوسط- هل مثل هذه في عصرنا الحاضر مؤهلة لإنشاء حياة أسرية؟
وأخيراً أعرض نموذجاً حساساً لما يترتب على اختلاف في زاوية النظر من اختلاف في الفهم والحكم. فقد أثار الباحث الشرعي عبدالله العلويط غضب سماحة مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بسبب ما ذكره في بحثه أن غلق المحلات التجارية وقت الصلاة بدعة ومخالف للشريعة، ووصف سماحته القائلين بذلك بأنهم مفترون ودجالون. إن سماحة المفتي محق في غضبه لأن الباحث اختار عبارات غير موفقة قد يفهم منها أنه أراد التهوين من شأن صلاة الجماعة. لكني لا أظن باحثاً شرعياً ومن هيئة الادعاء العام كان يقصد ذلك. ولكن خانه التعبير، فأحدث اللبس الذي أثار رد الفعل الغاضب. ولو انطلق الباحث من السياق الزمني والمكاني الراهن وترك إصدار الأحكام والنعوت وركز على مشكلات الازدحام المروري قبل وبعد الصلاة مباشرة وما يسببه من توتر في الأعصاب وضياع للوقت في الطريق، وطول مدة إغلاق المحلات التي قد تصل إلى (45) دقيقة واضطرار النساء والأطفال إلى الانتظار أمام المحل، ومشكلة قفل محطات البنزين والصيدليات وغير ذلك من الأمور التي تستدعي المصلحة العامة البحث عن وسائل التيسير فيها مثل تقليص مدة الإغلاق، وإلزام المطاعم بتخصيص ركن في المطعم لأداء صلاة الجماعة. ربما لو فعل الباحث ذلك لوجد تفهماً أكثر. خاصة أن هذا مطلب ينادي به الكثيرون وأحسبه لا ينافي الشرع.
إن الاختلاف في وجهات النظر والآراء بل والفتاوى - في أمور دينية أو دنيوية لا تمس لب العبادات نفسها، أوسع نطاقاً وأكثر تعقيداً مما ذكرت آنفاً. ولكن مساحة الاجتهاد فيها عريضة. غير أن الاجتهادات الصادرة من الأفراد تنطلق في اتجاه واحد، من المجتهد إلى المتلقين. وربما يكون هذا أحد الأسباب المهمة وراء نشوء الاختلاف، لأن البشر لا يتساوون في منهجية الفكر والاستنباط والخلفية الشخصية. والسبيل الأقوم لتصالح الأفكار وتقارب المواقف هو الحوار الناضج والمناقشة الصريحة الموضوعية والبحث العلمي في ملتقيات تضم كافة التوجهات والمذاهب القائمة في مجتمعنا. ولعل المجمع الفقهي السعودي الذي صدر بإنشائه الأمر الملكي رقم 1-73 بتاريخ 13-4-1432هـ وحدد خمسة أشهر للانتهاء من دراسته على وشك الإعلان عن تشكيله.