تتطور الجريمة، وتبعًا لهذا فإن إستراتيجيات وأجهزة مكافحتها تتطور، مع هذا، فإن الأجهزة الأمنية المتمثلة في الشرطة ورجال الأمن لا يمكن لهم وحدهم مهما كانت جهودهم أن يوفقوا ما بين “المكافحة” و”الوقاية”، والتي هي مسؤولية كل أفراد المجتمع وليس الأجهزة الأمنية فقط، ولتكون وظيفة اجتماعية منظمة فإنها بحاجة إلى جهاز “أمني-اجتماعي”، يُساند الجهات الأمنية، ويكون قريبًا من أفراد المجتمع، ليعمل عدة وظائف تتمثل في التوعية، والوقاية، والمعالجة، والمساندة، وغير ذلك.
لتوضيح الفكرة فإنني أفضل العودة إلى تاريخ الشرطة في الدولة الإسلامية، إذ نجد أن أول الخلفاء الراشدين، أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- هو أول من أنشأ “العسس” وتطورت مهامهم في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الحراسة الليلية. وحديثًا في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- تم إنشاء إدارة تابعة لوزارة الداخلية تحت مسمى “المجاهدين” ولا زال يسميهم كبار السن إلى اليوم “العسس” ووظيفتهم تتمحور في مساندة رجال الأمن حينما تقتضي الحاجة، كما أنهم كانوا إلى وقت ليس ببعيد يجوبون الشوارع ليلا للحراسة، إلا أن التمدد العمراني والتوسع الأفقي خصوصا في المدن الكبرى بالمملكة حرمنا من رؤيتهم، التي تمنحنا الشعور بالأمان داخل الأحياء السكنية.
في دول قريبة، خرجت تجربة “العسس” بمفهوم متطور تحت مسمى “الشرطة المجتمعية” إذ أن القضايا اليومية وانتشار ظواهر مؤلمة باتت تتطلب بالفعل إنشاء مثل هذا الجهاز، الذي يتكفل بالقضايا الأسرية ومشاكل العنف ضد المرأة أو الطفل، والخلافات العائلية وغيره. فلو تم إنشاء شرطة مجتمعية في الأحياء يعمل بها بنات وشباب هذا الوطن، من خريجات وخريجين أقسام علم النفس والعلوم الاجتماعية والشرعية، وكذلك التخصصات التربوية التي تُعنى بالطفل، فإن هذا من شأنه القيام بدور مكافحة الجريمة، وكذلك الوقاية منها، كعمل مساند لأقسام الشرطة التي ترد عليهم يوميا مئات القضايا صغيرها وكبيرها، والشرطة المجتمعية -المتخصصة- كفيلة بحمل عاتق القضايا العائلية التي زادت واستفحلت، بل إن كثيرا من الناس يتردد في الذهاب إلى قسم الشرطة لإقامة شكوى ضد قريب، أو للبلاغ عن حادثة عنف أسري قد يكون الصمت حيالها بسبب العادات والتقاليد التي غذّت بداخلنا الحياء، والخوف من الفضيحة واتقاء ألسنة الناس، وهذا الصمت زاد من انتشار العنف الأسري، فإن كانت عشرات القضايا خرجت على السطح أو وصلت إلى أقسام الشرطة فإن المئات لا زالت قابعة تحت غطاء الخجل!
وجود جهاز مدني، تحت مسمى الشرطة المجتمعية سيكفل إزالة كل تلك الحواجز، وسيعمل على مكافحة الجريمة التي للأسف أن كثيرًا منها يبدأ من حدث بسيط يتطور فيما بعد إلى قضايا جنائية لا نتمنى حدوثها، وهذه المراكز ستكون مكملة للأدوار الأسرية، إضافة إلى أن وجودها سيساهم من تعزيز الأمن داخل الأحياء التي استفحلت فيها حالات السرقات المنتشرة، إذ أن دوريات بسيارات صغيرة بزي مخصص سيجعل من يفكر اقتحام المنازل يفكر ألف مرة قبل الإقدام على هذا التصرف، هذه الدوريات ستفتح مجالا أوسع لعمل الشباب الذي يُعاني من البطالة، وقد تُمنح هذه الوظيفة للشباب الذي لم يأخذ فرصة إكمال الدراسة الجامعية، بعد تدريبه على هذه الوظيفة التي تحتاج إلى الوعي وسرعة البديهة، وكذلك الالتزام الجاد لمثل هذه الوظيفة والتي هي امتداد لعمل المتخصصات والمتخصصين الجامعيين داخل المراكز.
كثيرة هي المهام التي ستتحملها الشرطة المجتمعية، إلا أن الدور الهام والمُلح لإنشاء هذا الجهاز بات مطلبًا ضروريًا، ولو التفتنا حولنا واستقينا التجارب الناجحة من دول الجوار فإننا سنبدأ بتجربة مذهلة ونقلة متطورة في الأمن المجتمعي.
www.salmogren.net