يحدث أن يكون التراجع خطوة حكيمة، عندما يصبح التقدم تهوراً أو مضيعة للوقت والجهد، لكنه يبقى قرارًا قد ينسف الفرص لأسباب واهية، أو وهمية غير موجودة إلا في عقلك ولا تمت للواقع بصلة، ويمكن أن نأخذ من الطفولة درسًا في الإصرار والإلحاح، الذي يقود الطرف الآخر للموافقة وإن كانت جبرية، تحت ضغط المحاولات لنيل رغبته التي لن يتراجع عنها، رغم الرفض الذي قد يصل للوعيد، والتهديد، ومحاولات الإقناع، ويستخدم في سبيل ذلك كل الاستراتيجيات المتاحة والمناسبة لقدراته، بدءًا بالطلب، ثم الرجاء والمناقشة، والبكاء المتبوع بالصراخ وافتراش الأرض، والإضراب عن الطعام، وادعاء المرض، والعناد والتمرُّد، وتكرار يعقبه تكرار، حتى يحصل على مراده.
والكبير في موقف مشابه قد يصل إلى الدخول في دور “النشبه” الذي لا ينفك عن المحاولة، وطرق الأبواب المختلفة، لإيمانه بنفسه وأحقيته في الأخذ، وقد تحدّثت في مقال قديم عن مراجع لإحدى الدوائر الحكومية، ممكن أن يصل به الإلحاح إلى التواجد بدوام كامل، واستنفار الجميع لإنهاء معاملته، ولا يرضى بتاتًا بالجملة الشهيرة “راجعنا بكره”، وهذا يقودنا للسؤال عن المتراجعين الذين يقبلون “لا، غير ممكن، غير موافق، انتهى، اقلب وجهك، انتهى وقتك، النظام لا يسمح، انقلع ... إلخ” لماذا لا يعودون للطفل الذي كانوا عليه؟ والذي لا يعبأ بالرد الأول ولا الثاني ولا العاشر، وفي أفضل الأحوال يمكن إسكاته ببديل يرضيه، أو يذهب مؤقتًا بنيّة مبيّته للرجوع بحيلة أخرى.
لا شك أنّ الخوف من الرفض “رفض عاطفي أو مهني أو مالي أو اجتماعي .. إلخ” من المخاوف التي يشترك فيها أغلب البشر، بالطبع بعد أن كبروا ونضجت تجاربهم وحددت الآلية التي يفكرون بها، فالنضج قد يزيد الحماية على مشاعرنا كي لا تجرح، لدرجة أن يجعلنا نتخاذل ونتراجع بسرعة، والطريف حقاً في التراجع أنه يُبنى على مواقف ترجمتها مشاعرنا دون وجود للحقائق، ولشرح ذلك، كم مرت عليك كلمات “أحس أنه ما يبيني، أحس أنه ما يقدرني، أحس أنه ما يشوفني، أحس وأحس” وحتى في حديث النفس يتكرر مثل هذا الحوار، ولقطع دابر البناء على أحاسيس، اطلب الحقائق والوقائع التي تثبت هذا الإحساس.
وقد تحدث ريتشارد بندلر، أحد أبرز ممارسي التنويم الإيحائي المعترف بهم دولياً، عن القيود الشخصية التي تنشأ من تجارب الإنسان التي تصنع العادات والقوانين والمعتقدات والقيم، وحدد ثلاث مرشحات تمر بها المعلومات في العقل، وهي الحذف والتشويه والتعميم، فحذف الأوقات السعيدة التي كان الإنسان ينعم فيها بالصحة والفرح، يجعله يركز على الألم والحزن والمعاناة، والتشويه يقوده إلى تغيير المعنى للأشياء والأقوال ليكمل الصورة المرسومة في عقله وحده، بينما يعمم نتائج تجاربه على المواقف المختلفة.
خارج النص: لحتمية الموت قوة ضاغطة.. تعلّمنا كيف نفتعل الفرص.
amal.f33@hotmail.com