كان مما أوصى به الملك عبدالعزيز أبناءه أن يحرصوا على اللحمة مع الشقيقة مصر.. وقد روى الأمير محمد الفيصل في مذكراته (محمد الفيصل يتذكر) أن أبا تركي أوصى الملك فاروق بأولاده خيراً، وكان يحسب وهو في آخر سني حياته وفاروق في مطلعها أنه سيخلفه.
ولكن شاء الله أن ينقلب ضباط من الجيش على الملكية فيغادر فاروق الحكم في حياة الملك عبدالعزيز. ويأتي الحكام الجدد يتقدمهم الفريق محمد نجيب والبكباش جمال عبدالناصر للسلام على الملك وتأكيد أواصر الصلة بين البلدين، فيرحب بهم ويجدد معهم العهد.. وفي نفس الوقت تفي المملكة للملك المخلوع وتعنى به وأسرته في المنفى حتى وفاته -رحمهم الله جميعاً.
وقد مرت العلاقات مع الشقيقة مصر بمراحل حلوة ومرة.. فبعد تصادم المحمل المصري في الحج في بداية الحكم السعودي للحجاز مع بعض المتحمسين من جماعة «الإخوان» (إخواننا نحن!) الذين استنكروا استخدام الآلات الموسيقية العسكرية في المشاعر المقدسة من قبل حملة البعثة المصرية التي تحمل ثوب الكعبة المصنوع في مصر، مرت العلاقات بقطيعة طوال ما تبقى من عهد الملك فؤاد الأول، ثم عمل المصلحون يتقدمهم رجل الأعمال المصري العظيم طلعت حرب على إصلاح ذات البين.. ورحب الملك العروبي عبدالعزيز بالصلح، واستضاف الملك الجديد فاروق، كما زار مصر وحظي بحفاوة تاريخية لم يحظ بها ضيف من قبل.
وبعد عقود انقطعت العلاقات مرة أخرى نتيجة التدخل المصري العسكري في اليمن. ثم تصالح الزعيمان فيصل وعبدالناصر، وتوثقت علاقتهما أكثر بعد نكسة عام 1967 ووقفت المملكة مع مصر وقفة الأشقاء والشركاء لإعادة تأهيل الجيش المصري وتدعيم اقتصاد البلاد، حتى تحقق أول انتصار عربي على إسرائيل في حرب رمضان 1973.
مرة أخرى تأثرت العلاقة بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، إلا أنها عادت إلى طبيعتها في عهد مبارك.. وحتى تاريخه. والجميل في كل المراحل الصعبة أن صلات الشعبين في مهد الرسالة جزيرة العرب وبلاد النيل العظيم لم تتأثر. فمنذ زواج الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأم المؤمنين ماريا القبطية، مروراً بالفتح الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه، وكل خلافة تلت من الأموية والعباسية والفاطمية وحتى العثمانية، كانت اللحمة بين جهتي بحر القلزم (البحر الأحمر) أقوى وأسخى وأسمى من كل خلاف واختلاف طارئ.
واليوم يراد لهذه العلاقة التي يقوم عليها بناء القومية العربية، وقلب الأمة الإسلامية أن تضعف مرة أخرى لمصلحة أعداء الأمة وحربتهم إسرائيل، فنفخوا رياح الفتنة وأعاصيرها لأتفه الأسباب وأسخفها. واستغلها تجار الأزمات وطلاب البطولات وصناع الأمجاد الشعبية الزائفة فطاروا بها ووجودها فرصة لتنفيس أحقادهم وعنصريتهم وتحقيق أهدافهم وأجندتهم.
وهنا يأتي دور العقلاء والحكماء ليتصدوا للمهاترات التي بلغ بها التردي أن تثار لمجرد القبض على تاجر مخدرات لا يمثل فيما ارتكبه الشعب المصري الذي أثبت باختياراته الانتخابية تدينه وحرصه على مكارم الأخلاق.
شكرًا لحكمة قادة البلدين التي طوقت الأزمة وتجاوزت سقطاتها، وبقي دور قادة الرأي في نزع الفتيل ودور الإعلام في إطفاء نارها.. اللهم العقل عند الشدة والثبات عند الامتحان والحكمة في مواجهة الفتن.
kbatarfi@gmail.com