قرار حاسم.. وتصرُّف حكيم. قرار خادم الحرمين الشريفين باستدعاء السفير, قرار وقائي. وتصرّف الصفوة من أبناء مصر, تصرف احتوائي. عملان نبيلان, خَفَتَ معهما فحيح الأفاعي, وانقطع بهما دابر المتآمرين.
هناك متفائلون يحسنون الظن, ومتشائمون يجهضون الآمال, ولكل قناعة حيثياتها, وتظل كل التوقعات محتملة الوقوع. ولكن العاقبة في النهاية للمصداقية والمبدئية والموقفية.
من قبل هذا التحرُّف المرتقب, وفي أوج التصعيد الإعلامي المغرض, فرَغْتُ ساعة من نهار, للركض في فيافي المواقع العربية, عبر الشبكة العنكبوتية, من صحف ومجلات, وقنوات مسيَّسة أو “مؤدلجة” أو مأجورة. وفؤادي كفؤاد (أم موسى), وحزني كحزن (يعقوب), وخوفي كخوف (الكليم).
وما كنت حفياً هذه الأيام بتقلّبات الطقس العربي, ولا متفائلاً بمستقبل سعيد في ظل تلك التداعيات غير المسؤولة, والتدخلات غير المقبولة.
والمتابع للتاريخ العربي الحديث, في جزره ومدِّه, منذ أن احترف (العسكر) السياسة, وأديرت شؤون الأمة من جوف دبَّابة أو من قعر ثكنة تمتلئ أوعية مشاعره بما لا يسر. وكلمات المجاملة والإطلاقات العاطفية, لا تملأ البطون الجائعة, ولا تثبت الأفئدة الفارغة. والمؤسف حقاً ما يثار بين الحين والآخر من إشاعات كاذبة, يتلقّاها إعلاميون ماهرون بلدد الخصام, ثم يكونون معها كمسترقي السمع, افتراء ومبالغة, كي تهيج الرأي العام, وتحمل السَّماعين على ممارسات همجية. تعكِّر الصفو, وتوهن العزمات, وتفوّت الفرص. والرعاع على ما هم عليه من سلبية وبدائية وهمجية, يمارسون غوغائيتهم باسم الحرية والمواطنة, ولا يخادعون إلاّ أنفسهم.
أَنْ تحافظ الدولةُ على حقوق رعاياها المغتربين عبر القنوات الرسمية, فذلك حقٌّ مشروع, وواجبٌ وطني. وأَنْ تخشى الحيف على المذنبين من أبنائها المهاجرين, فتلك طبيعة إنسانية, لا ينفك منها أحد. وأنْ تطلب مؤسسات الدولة المعنيّة حضور مندوبيها جلسات المحاكمة, أو تجنيد المحامين للمرافعة والدفاع عمن أذنبوا من رعاياها خارج وطنهم, فذلك عين الصواب, وأدنى حقوق الأبناء على سلطاتهم. إلى هذا الحد لم يكن في الأمر ما يستدعي الارتياب وردّ الفعل المناسب. لكن الأمر مختلف جداً. و(مصر) التي نُعُدَّها عيبة الأمة العربية, وعمقها (الإستراتيجي) والبشري والحضاري, يسوؤنا أن يمسّها طائف من الفوضوية, أو أن يخطفها حزب أو طائفة, أو أن تظلّ مرتهنة لما يشبه الفراغ الدستوري. لقد أنجز الشعب المصري أفضل مشروع سياسي, وأشْرفَ تحركٍ وطني, لتصحيح الأوضاع, وتحقيق الحرية, وإقصاء حكم الفرد, وإجهاض سلطة الحاشية, والحد من ممارسة القمع, وعزل الرأي العام عن تقرير مصيره بنفسه. ولقد كنا نود بعد هذا الإنجاز الحضاري أن تدخل الجماهير مساكنها, وأن تراقب التحرُّك المرحلي للمجلس العسكري, وأن تستحثّ المؤسسات المؤقتة, لاستكمال متطلّبات الحكم المدني المعروفة خطواته. إذ ليس من مصلحة الأمة أن يبقى الشارع مصدر السلطات, وأن تظل قابلية الاختراق قائمة. لقد عبّرت الأمة من خلال التدفُّق الجماهيري عن همومها وتطلُّعاتها, وأسقطت النظام بحسناته وسيئاته, وأتاحت الفرصة لنشوء نظام منتخب. وما لم تَعُد الجماهير إلى مدرجات الرصد والمراقبة, وتدع الفرصة للمؤسسات النيابية, لوضع الآليات الكفيلة بتحقيق العدالة والمساواة, وتكافؤ الفرص, وتداول السلطة, وفرض إرادة الأمة, فإنّ الفوضى ستسود, ومن ثم تحول دون استتباب الأمن وممارسة العمل السياسي و(الدبلوماسي) على وجهه, وتبادل المصالح مع دول العالم. ذلك الحراك الفوضوي, وغير المسؤول ما نشاهده, ونستاء منه, ويصيبنا شيء من دخنه. فمصر أغلى من أن نتخلّى عنها في ساعة العسرة, وأهم من أن نأخذها بما فعل السفهاء منها وفيها. غير أنّ تكرُّر المحاولات الاستفزازية, لا يمكن احتمالها, ولا الصبر عليها.
وفي ظل ما حصل من مقترفات, تعرّضت لها سفارة المملكة وقنصلياتها في بلد نعيش معه الخلطة, وتتقوّى بيننا وبينه العلاقات, وتتعدّد مجالات المصالح المشتركة، اتخذ خادم الحرمين الشريفين قراره الفوري والحكيم, لإيقاف التدهور, وقطع الطريق أمام اللعب القذرة. ورهان الزمن أنّ ريح الأمة العربية مرتهنة لما بين البلدين من علاقات متعدّدة الفوائد والعوائد, لهما, وللأمة العربية. هذه الحوادث التي تتكرّر, ويسعى لإضرامها إعلاميون نفعيّون, لا يبالون بأي وادٍ هلكت أمتهم, ولا في أي فضاء ذهبت ريحها, لا يمكن القبول بها, ولا احتمالها, ولا تمريرها على مبدأ (عفا الله عمّا سلف), إذ لابد من محاسبة الفاعل, ومساءلة المُغْوِي والمغرِّر, وإشعار الفارغين والمزايدين بأنّ العدالة بالمرصاد, لكلِّ من استخفّ بمقدرات الشعب, وحرض على الفتنة, وعرَّى سوءة أمّته, وعرضها للنقد والمساءلة, وألجأها إلى الاعتذار والاسترضاء.
هذه الزوابع المعهودة والمتوقّعة من أعداء الأمّة المندسِّين وسط الرأي العام المحتقن, لا يمكن قطع دابرها بالعفو والصّفح, فاللئيم لا يأطره على الحق إلاّ القرع بالدرة, والحر وحده الذي تكفيه الإشارة. لقد تجاوزت المملكة تجنِّيات وتعدِّيات, أحسبها كافية لمراجعة النفس, وكم تفاجأ بين الحين والآخر بجنايات مماثلة, هنا وهناك, ومن شرائح ليست مهمة, وليست عاقلة, وهي لا تفهم, ولا ترعوي إلاّ بلغة السوط وحده, بمعزل عن (الجزرة), ولابد والحالة تلك، من تعقُّب المسيئين ووضعهم في القائمة السوداء, بحيث يطال هذا الصنف الحرمان من أي فرصة تتاح لغيره, وما أكثر الفرص الإيجابية التي تتاح لهذا النوع من الإعلاميين المحرّضين على الفتنة, كنوع من العلاج, وعادة اللئيم أن يتمرّد مع الإكرام, والكريم وحده الذي تملكه بالإكرام: (وما قتل الأحرار كالعفو عنهمُ). وهاهي الصّفوة من أبناء مصر الذين قَدِموا بقضِّهم وقضيضهم, لإثبات الوفاء بالعهد والوعد, والعرفان بالجميل, ولقد قُوبلوا بما هم أهلٌ له.
من المؤكد أن تكتب مقالات متفاوتة: قوّة وضعفاً, وأن تقدّم برامجُ تبريرية أو انتقادية أو تحريضية, وسيختلف الناس حول مستوى المواجهة وأسلوب الحلِّ, فالإعلام الكسبي يبحث عن مادة مثيرة. وليس مهماً ما يكون بعد هذه التظاهرة الحميدة التي قطعت قول كلَّ خطيب. الشيء الأصعب أن يقف المسكونُ بهم أمّته بين خيارين أحلاهما مرٌّ: فإما أن يصر على مواجهة التحدّي بتحدٍّ أقوى منه, والمملكة تمتلك هذا الخيار, ومن حقها بمنطق العقل ووحي الضمير أن تمارسه, بوصف ذلك واحدة بواحدة, والبادي أظلم. وذلك من باب الذّود عن حياض كرامتها:-
(ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يُهدم ومن لا يتق الشتم يشتم).
وإما أن تعفو عما سلف, بدوافع إنسانية, وتحت وطأة الظروف التي لا تحتمل مزيداً من الإرهاق للواقع المصري المأزوم, وتقديراً لهذه النخبة العاقلة التي تمثل كل الأطياف, والتي جاءت بمحض إرادتها. هذان الخياران: خيار المعاقبة بمثل ما عوقب به المرء, أو العفو المدفوع بالحب والتقدير, من أصعب الخيارات, وأقساها على نفس المواطن الذي يشعر بأهمية كرامته, وأهمية معاناة الطرف الآخر, بوصفه أخاً له مكانته وحقه.
وخادم الحرمين الذي بادر بتطييب خواطر القادمين بدافع المحبة, لا يمكن أن يصفح عما بدر, إذ على الجهات الأمنية في مصر أن تلاحق تلك الخلايا, وأن تعرف الأصابع القذرة التي تحركها في الخفاء, لتفسد ما بين البلدين الهامين في المنطقة, ثم إن على الجهات الأمنية في المملكة أن توقع أشدّ العقوبات على المستخفّين بأمن البلاد وأنظمتها, وسلامة المواطنين, فما بعد تهريب المخدرات من ذنب. وفي النهاية (لا تزر وازرة وزر أخرى) فالشعب المصري والحكومة المصرية أحقّ بالإكرام ورأب الصدع. وواجب الأطراف كلها الاحترام المتبادل للسيادة والقبول الطوعي لأنظمة الدولة المضيفة وقوانينها, والثقة بعدالتها, وتقدير حسن تعاملها. لقد أحرج الغوغائيون دولتهم, وأشمتوا بها أعداءها, في وقت هي أحوج ما تكون إلى الهدوء والسكينة وشدّ الأزر, ومن مصلحة مصر قبل مصلحة المملكة تعقُّب تلك الفئات المأجورة, وأخذها بعزّة واقتدار (ومَنْ أمِنَ العقاب أساءَ الأدب).