ألو! ألو! أيها القارئ الكريم، اسمح لي أن أحدثك عن جهاز كان يسمى بـ”المسرة”! وإذا كنت لا تعرف معنى كلمة “مسرة” فهي الكلمة التي اختارها مجمع اللغة العربية في القاهرة، أول مجمع لغوي عربي، في عام 1892م لكلمة تليفون، نعم التليفون، الهاتف رسمياً، هو المسرة؛ لأن كلمة تليفون ليست عربية..
... وعار علينا السماح لها باختراق حواجزنا الثقافية والدخول للغتنا لتفسد عقول شبابنا. وكذلك كلمة “ألو”؛ لأن أصلها ربما يكون إفرنجياً، وهي كلمة “هالو”، لكنها عربية اليوم أكثر من كلمة “يا هذا”، أو “يا صاح”، أو “أي فلان”.
وكلمة “مسرة” من أولى الكلمات المعربات في اللغة العربية الحديثة، حسب رواية عالم اللغة محمد الحمزاوي، عن “أعمال مجمع اللغة العربية في القاهرة”. وحظي بشرف الأسبقية معها، حسب المصدر، كلمات مثل: “bravo” التي عُرِّبت بـ”مرحى”، و”avocat” التي عُرِّبت بـ”مدرة”، و”bonjour” وعُرِّبت “عم صباحاً”، وكلمة “ numero” وعُرِّبت بكلمة “نمرة” (ص38).
وبما أن الأمور المهمة لا تحدث جزافاً، وأنه لا بد لهذه التسمية السعيدة من سياق أسعد ترد فيه، فهذه التسمية على الأرجح انعكاس سياقي لمزاج فقهاء اللغة في المجمع آنذاك على قريحتهم اللغوية، فقد كانوا سعداء مسرورين لتمكنهم من رؤية ولمس هذا الجهاز العجيب “المسرة” في قصر الملك فؤاد، ملك مصر في ذلك الوقت، الذي قرَّبهم ورعاهم، ورعى مجمعهم. فأين لعربي أن يرى مسرةً أو هاتفاً في ذلك الوقت، أي قبل 150 عاماً تقريباً، خاصة إذا ما كان مثقفاً أو باحثاً لغوياً مفلساً، ما لم يكن ذلك في مقام أهل الجاه والسلطة والمال مثل مقام الملك فؤاد؟
وربما كانت كلمة “مسرة” وكلمة “نمرة”، اللتان عُرِّبتا بالكامل، قد عُرِّبتا مجاملة لجلالته وتقديراً لرعايته مجمع اللغة الآنف الذكر، واستقباله لهم في سرايا الغيط في الريف المصري؛ حيث أراد جلالته تقديم لفتة شكر ولو صغيرة لهؤلاء المتحمسين للعربية، بعيداً عن حفلات “الأوبرا”، وبدل “السموكنق”، وموسيقى “الأنسمبل دو شامبر”، فعتبوا عليه لسماع كلمات الفرنجة في محيط قصره، لكنهم كبادرة مجاملة قرروا إهداءه اسماً عربياً لجهاز عزيز عليه، وكلمات تُستخدم في بلاطه مثل “بونجور”، و”برافو”.
وربما يكون اختيار كلمة “مسرة”، التي قد تعني شيئاً يبعث على السرور، أو الشيء الذي يمكِّن أحدنا من أن يُسِرَّ من خلاله بمحادثة لقريب أو صديق، أو كليهما معاً، ليس مصادفة؛ فكلا المعنيين معاً أو منفصلين يعبِّر عن نظرة هؤلاء الفقهاء اللغويين لهذا الجهاز الجديد الذي وجودوه أمامهم، والذي سرُّوا به. ولو استمرت التسوية لليوم لرأيتَ الفرد منا يطلب من صاحبه أن “يسرَّ له مسرة”، أو “يعطيه مسرة”، شكر المسؤول فلان قرينه في “مسرة صباح اليوم”، أو واتخذ القرار “إثر مسرة بينهما”.
وقد شكلت “المسرة”، الدالة على هذا الجهاز العجيب، في فترة قريبة من التاريخ العربي، صدمة للكثير من العرب البسطاء، الذين لم يزوروا الغرب؛ لأنهم ببساطة كانوا بعيداً عن العلم والتقنية التي أنتجها. وقد رفض الكثير من البسطاء في أنحاء العالم العربي التصديق أنه لا يوجد كائن حاكي داخل “المسرة”، أما في الجزيرة العربية فقد تحملت البرقية شقيقة المسرة عبء الرفض، ولم يرَ بعض المواطنين أنه مسرة مطلقاً، وإنما رأوا فيه شراً مستطيراً، وأعادوا تسميته بالتليفون؛ لأنهم اعتقدوا أنه آلة شيطانية مسكونة بالجن، وأن بداخله جناً “يتلاقون” (أي يتقابلون)، وينقلون الكلام بين المتحدثين. وبعد مخاض طويل أصبحت كلمة “تليفون” هي التليفون، واختفت أختها الحسناء “مسرة”؛ لأن المسرة دخلت كل مدينة وحارة، وأصبحت فوق ذلك موجودة دائماً لمن يريد أن يبث فيها شجونه في كل مكتب من مكاتب البريد تقريباً.
وظلت وسيلة الاتصال هذه لمدة طويلة حكراً على الأشخاص المهمين في الحي، الذين يوجد لديهم جهاز “مسرة”، “أبو هندل”، “أبو ذراع جانبي” باللغة العربية، أي الذي يتصل من خلال دائرة سنترال، وفي بعض الأحيان يكون ذلك الشخص شخصيةً عسكريةً مهمةً كقائد المنطقة؛ لأنه يزوَّد بهذه الخدمة من الحكومة مجاناً للاتصال به عند الحاجة. ولم يكن صاحب مسرة الحي يمانع من الفزعة للجيران، أو ممارسة وجاهته عليهم، سواء بالسماح لهم باستخدام تليفونه، أو بالسماح لآخرين بالاتصال بهم، خاصة أنه لم تكن هناك فواتير تدفع في ذلك الوقت.
ثم، وتطويراً للبنية التحتية، سُمح للشركات بتزويد الخدمة للمواطنين مباشرة برسوم؛ فانتشرت في عالمنا شركات تشترك في الكاسعة العربية “تل” اختصار لتليفون “ليبان تل”، و”إيجبت تل” و”سعودي تل”، و”تل” هي المقطع الأول لكلمة تليفون. وقد تسببت كلمة تل في تغريب أسماء البلدان التي تعمل الشركات فيها، حتى فطن الناس لمعنى تل، ودخلت تسمية الهاتف. ولم يكن ذلك طبعاً بعيداً عن أعين اللغويين لدينا، الذين ناضلوا أيما نضال لتحويل “تل” إلى “هاتف”.
وكانت بداية الهاتف التجاري فوضى واحتجاجات في كل بيت وحي لولوج هذا الجهاز العجيب للبيوت المغلقة. فالهدف منه كان مخططاً غربياً لإفساد المرأة المسلمة، يتزعمه تيار تغريبي شيطاني نجح في اختراع هذه الآلة المفسدة للأخلاق لإفساد المرأة المسلمة فقط. فأقسموا بأنهم كشفوا المؤامرة، وأن المسرة ليست إلا أداة لإظهار عورة صوت المرأة خارج المنزل لتتلقفها آذان الرجال المتربصين بها. وكان الناس يحتجون ويعارضون دخول الهاتف لبيوتهم مباشرة وبدون “هندل”. وظهرت في ذلك الحين موضة: “من معاي عالخط” و”من ذا بيته؟”. أي أن بعض السفهاء الذين يتصلون ببيوت لا يعرفون أهلها علَّهم يأنسون بصوت أنثوي؛ لأنهم لا يرون من المرأة شيئاً مطلقاً، ولا يستطيعون حتى سماع صوتها، وكانوا يحاولون إطالة المكالمات بأي شكل عبثاً. وكان السؤال الوحيد المتاح لهم بعد “ألو”: من ذا بيته؟ التي يمكن ترجمتها للغة المجمع اللغوي بالسؤال: “لمن هذا البيت؟”.
ومما زاد الفاجعة أن مكالمات بعض السفهاء وجدت بعض التجاوب من بعض النساء اللائي قتلتهن الوحدة، ممن يشعرن بالاكتئاب خلف الجدران المصمتة، ويملكن صوتاً جميلاً حتى ولو كن في سن الثمانين، أو في جمال غوريلا. وبالطبع كانت موضة عابرة وانتهت، إلا أنها تُبقي لنا دروساً مستفادة، من أهمها أن الاستحواذ على التقنية قد لا يعني استخدامها الاستخدام الجيد، وأن الكبت في المجتمع قد يولِّد تصرفات من قبيل “من ذا بيته؟”، وأن التغريب ما زال مستمراً، واختراع أجهزة التغريب آخذ في التسارع؛ فتلا ذلك كل أنواع الاتصال من: أطباق البث التلفزيوني، الجوال، البلاك بيري، وغيرها، ثم الفيس بوك والتويتر. وأصبح لدينا اليوم شركات اتصالات تقوم بتغريبنا نيابة عن الغرب، وتتسابق لعرض منتجات التغريب لدينا، وأصبح لدينا هواتف في منازلنا، ومطابخنا، وحماماتنا، وسياراتنا، وجيوبنا، ومع أطفالنا وسائقينا، لكننا في كثير من الأحيان لا نرد عليها، ولم يعد الكثير منا “يسر” بالرد على التلفون حتى ولو كان المتكلم هاتفاً أو مسراً.
كما أننا قلبنا ظهر المجن للقوى التغريبية، ورددنا كيدها إلى نحورها، فملأنا الفضاء مواعظ ضد التغريب، وقاتلناهم بسلاحهم بتعريتهم والتهجم عليهم، فلم يعد ما يخترعونه من “مسرات، تغريبية تسرهم”، وأصبحنا نبث المواعظ مدفوعة الثمن، وخدمات تفسير الأحلام، وإخراج الجن، والرقى بمختلف أنواعها على أجهزة المسرات والهواتف كافة، وهنا استطعنا قلب موجة التغريب على الغرب، فشرَّقنا أجهزتهم وبرامجهم.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif