في عام 1943م، ولما كانت الحرب العالمية الثانية في أوج اشتعالها، حصل شيء غريب. شيء لم يزدد على مر الزمن إلا غرابة.

«تشارلي براون» طيار حربي أمريكي، وكان ينطلق من القواعد الأمريكية المتمركزة في بريطانيا، فكانت تأتيه الأوامر فيأخذ طيارته ويقصف أهدافاً ويعود، وكانت طائرته كبيرة من النوع القاذف للقنابل وكان على متنها طاقم من عدة أشخاص. في العشرين من ديسمبر من تلك السنة أتته أوامر لقصف مصنع طائرات في مدينة بريمن الألمانية، فأخذ «القلعة الطائرة» -وهو الاسم الذي يطلَق على ذلك النوع من الطائرات الكبيرة- وانطلق مع طاقمه، ولما وصلوا للهدف أمطر عليهم الألمان النار من مدافع مضادة و هَبّت ثمان طائرات لتُسقِط الطائرة الأمريكية وتحاول منعها من تفجير المصنع، إلا أن تشارلي براون نجح في إلقاء القنابل ثم ولّى مدبراً، لكن أصابه من نيران الطائرات والمدافع فتضررت طائرته، وكان من بين الطيارين الألمان «فرانز ستيغلر»، وهو طيار محترف قد قتل ما لا يقل عن 28 من أفراد العدو في هجماته الجوية المضادة منذ بدأت الحرب. النيران التي أصابت طائرة براون كانت بالغة، وأصيب بعض أفراد الطاقم الأمريكي بجروح، وثلاثة من محركات الطائرة الأربعة إما دُمِّرَت أو أصيبت، وفي هذه المعمعة فَقَد براون وعيه قليلاً ثم صحا وطائرته تحلق منخفضة فوق مطار ألماني بعد أن فجر اثنتين من الطائرات التي تصدت لهم، وأما بقية الطائرات فكان منها طائرة فرانز والذي هبط ليعيد تسليح الطائرة وتعبئتها بالوقود ثم انطلق من جديد يلاحق طائرة براون والتي حاولت يائسة أن تفر، ولما وصل فرانز للطائرة الأمريكية رأى أنها متضررة كثيراً، بل إنه اقترب حتى استطاع أن يرى من خلال الفجوات التي صنعتها نيران الألمان بعض أفراد الطاقم وهم يعالجون الجرحى، ولما التفتوا ورأوا طائرة فرانز أُسقِط في أيديهم وأيقنوا بالهلاك، وبينما هم ينتظرونه يرسل عليهم نيران الموت إذ طال انتظارهم وفرانز يحوم حولهم، واستغربوا لما رأوه لا يقذفهم بطلقات مدفعه، فأثناءها كان فرانز يستحضر كلمات قائده والذي أمره ورفاقه أن لا يقتلوا الذين قفزوا من طائراتهم ناجين بمظلات الباراشوت، ولما كان فرانز يحدق في هؤلاء ساواهم معهم، فرأى أن وضع هؤلاء مثل وضع اليائس الذي يقفز بالمظلة من طائرته المصابة، ولهذا رفض إسقاطهم، وبدلاً من هذا حاول فرانز أن يجعل براون يهبط ويستسلم، لكن براون أبى ذلك لأن طاقمه أصابتهم جروح بالغة واحتاجوا إلى علاج فوري، فرافقهم فرانز حتى خرجوا من ألمانيا، وعاد فرانز لقاعدته ولم يخبر أحداً بما حص.

هبط براون سالماً في بريطانيا وعولِج رفاقه، وذهب لقادته ليسلمهم التقرير الذي فيه بيان ما حصل لهم، ولما أنبأهم بالطيار الألماني الشهم الذي أنقذ حياته وحياة رفاقه -رغم أنهم قصفوا دولته- تجاهل القادة هذه القصة وقالوا له «إنسَ ما حصل»، وقال براون إن القادة الأمريكان كانوا يرون الألمان كلهم وحوشاً لا رحمة فيهم. انتهت الحرب بهزيمة ألمانيا وانتصار الحلفاء، وانتقل فرانز من دولته مهاجراً إلى كندا، أما براون فتقاعد وشَرَعَ في البحث عن الرجل الذي أنقذه وفريقه من الهلاك، وبعد سنين من البحث نَشَر رسالة في نشرة دورية صغيرة خاصة بالجنود الألمان لعل فرانز أن يراها، وفعلاً كان فرانز من قارئي هذه المجلة، وبعد فترة من التراسل التقى الاثنان لقاءً حاراً بعد 46 سنة من تلك الحادثة، وصارا يتزاوران وظهرا على عدة برامج تلفازية أبْرَزَت قصتهما المدهشة وتحاورت معهما.

ومرة أخرى كان لهما مصادفة غريبة مع القدر، فتوفي كلاهما في نفس السنة، عام 2008م، بعد أن أعطيا التاريخ قصةً عجيبةً لا تُنسى.