استضيف سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- في إحدى الفعاليات الشبابية المسائية، ألقى كلمة أصغى لها الشباب وأنصتوا، وعلى الرغم من صعوبة ضبط سلوك الشباب والسيطرة عليهم وأخص في مثل هذه الفعاليات والتجمعات الكبيرة، إلا أن هؤلاء الشباب أنصتوا لسماحته وتابعوه بمنتهى الانتباه والتركيز والوقار، وكان محور الكلمة يدور حول المشكلات والتحديات التي يواجهها الشباب، وبعد أن انتهى سماحته من إلقاء كلمته، طُرحت عليه جملة من الأسئلة، وكان من أبرزها سؤال عن أهم التحديات التي تواجه الشباب، وكان جوابه - رحمه الله-، إن أهم تحد يواجه الشباب اليوم هو خلو ساحتهم من رمز يلتفون حوله، يستمع لهم ويسمعون منه، رمز يقتدون به ويهتدون إلى السلوك السوي والمنهج الصحيح.
كان ذلك قبل حوالي العقدين، وعلى الرغم من قصر المدة بين مقولة سماحة الشيخ وواقعنا الحاضر إلا أن مشكلات الشباب كانت في حينها أقل عدداً وتعقيداً، وكانت عقلياتهم أكثر توازناً وتفهماً وتوافقاً وانسجاماً مع محيطهم الاجتماعي، الآن كثرت مشكلات الشباب وتنوَّعت وتعقّدت سلوكاتهم، وأضحت عقلياتهم أشد عنفاً وحدة، ونفسياتهم أكثر توتراً واضطراباً، وأضحى خروجهم على المألوف والموروث يتسم بالرفض والتحدي والمواجهة الصريحة.
إن خلو الساحة من رموز معتبرة موثوقة، مؤتمنة أمينة، متزنة متوازنة، مؤثّرة مقنعة، يفتح الأبواب مشرعة إلى كل أوجه الفوضى الفكرية والسلوكية، ليس هذا فحسب، بل إن فراغ الساحة من الرموز القيادية يهيئ المجال إلى نشوء بيئات ومناخات يسهل فيها ظهور الأدعياء الذين يستحوذون على الشباب ويؤثّرون عليهم فكرياً وسلوكياً خارج الأطر العقدية والثقافية المتوافق عليها اجتماعياً وسياسياً، وهذا بدوره يفضي إلى صور عارية من قيم الالتزام والاتزان، ولهذا برزت علانية مفاهيم غريبة خارجة عن ما هو سائد وثابت في المؤسسات المجتمعية وفي العقل الجمعي العام.
هل يلام الشباب على خروجهم وتبنيهم لمفاهيم منحرفة، وممارسات حادة؟ وهل يلامون على انقيادهم للأدعياء ومثيري الفتن؟ وهل يستكثر على الأدعياء تصديهم وإصرارهم على استقطاب الشباب والاستحواذ عليهم؟ أو يستنكر على الأدعياء جهودهم وتنوّع أساليبهم في السيطرة على عقول الشباب وشغل أوقاتهم بما يخدم توجهات هؤلاء الأدعياء وأغراضهم؟
رحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
أقول: الآن هناك من يعيب على الذين سخَّروا أنفسهم وجندوها وسعوا جاهدين إلى تنظيم الفعاليات، وتسيّدوا طواعية وتبرعاً مجالات أوجه استقطاب الشباب، يلومونهم ويتهمونهم بالتضليل والاستحواذ والتغرير، ربما يكون في هذا شيء من الحق والصدق، لكن لماذا يلام هؤلاء المؤمنون بأهدافهم؟ المتحمسون لرسالتهم؟ أليس الأولى باللوم والمعاتبة ذاك المتقاعس عن ممارسة دوره؟ المتخلي عنه بمحض إرادته واختياره؟ ذاك الذي آثر الاكتفاء بمراقبة الأوضاع والإنصات لأقاويل الكذب والتدليس، ليس هذا فحسب، بل استسلم لحملات التخويف والخوف من أي جهد يهدف إلى المحافظة على الشباب من مصادر الانحرافات العقدية والفكرية ، أو يحفزهم على الالتزام بما يحفظ عليهم دينهم وقيمهم.
تاه الشباب وضاعوا بين تيارات فكرية متصارعة، كل يرى الحق عنده والصواب معه، والسبب فقدان الرمز المعتدل الوسطي الذي يرجع إليه الشباب، يصحح لهم المفاهيم، ويرشدهم إلى سبل السلام والاعتدال.
إن تحطيم صور الرموز وتقزيم أدوارهم يفضي إلى المزيد من تيه الشباب وانحرافهم، وإلى فقدان الهوية والاتزان، ويسهل هيمنة دعاة التطرف على العقول والوجدانات وبالتالي تسيير الشباب وجرهم إلى مهاوي الردى وأتون الضلال.