عندما بدأ يُصبح الدين صنعة - من بعد الخلافة الراشدة بعقود - بدأ جمود الدين والفقه، وانتشر الجهل بين الناس؛ فقد أصبح الإسلام تخصصاً، لا يحسنه إلا فئة متخصصة، والأصل أن المسلم يفقه دينه جميعه، وأن الأمور التي تحتاج إلى سؤال متخصص هي أمور استثنائية؛ فقد أكمل الله الدين، وجعلنا على المحجة البيضاء؛ فبسبب التخصص ودفاع أهل الصنعة عن صنعتهم أصبح الجهل بالدين هو الأصل وهو الورع.
واليوم امتداد للأمس؛ فالكليات والمعاهد الشرعية في البلاد الإسلامية تُخرِّج شرعيين أصبحوا أسرى لشهاداتهم الأكاديمية، بغض النظر عن نواياهم عند انخراطهم في الكليات الشرعية، أكانت صلاحاً أو حاجة أو اضطراراً. ومما لا يُجادل فيه أن معظم خريجي الثانوية لا يدركون ماذا يريدون، وإن أدركوا فهم في فترة نفسية وفكرية متقلبة، ثم تأتي الحياة ومواقفها ودروسها من بعد ذلك. وهذا ليس مقتصراً على التخصص الشرعي فقط بل هو في التخصصات كلها، ولكن أن يكون هناك متخصص شرعي «يوقِّع عن الله»، وليس له صنعة إلا التخصص الشرعي، فهذا هو مكمن الخطر ومنزع الفتنة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أن العلوم كلما شرُفت لا تُدرس إلا للناضج فكرياً، ومن عنده ثقافة وعلوم متنوعة. ومن هذا طريقة الأمريكان في عدم تدريس الطب والقانون في مرحلة البكالوريوس؛ فطالب البكالوريوس غالباً ليس بناضج فكرياً وعمرياً لتلقي هذه العلوم بجدية وبفهم يتجاوز الحفظ والتقليد. وكذا، فتنوع الخلفيات العلمية وتخصصات البكالوريوس يعطي آفاقاً واسعة فكرية وعملية للمنخرطين في برامج الطب والقانون العليا. وعند التأمل سنجد أن هذه هي حالهم حتى في برامج الدراسات العليا الإنسانية الفلسفية؛ فهم غالباً يفضلون من يختلف تخصصه عن التخصص المتقدَّم له في الدراسات العليا الإنسانية.
واليوم أصبح التخصص الشرعي في صورته الحالية التقليدية أشد خطراً مما سبق؛ فالعلوم قد تقدمت وتعقدت، وتجدد الحوادث وتكشف السنن الكونية هما اللذان يعينان على فَهْم النصوص الربانية الأزلية، وهما اللذان يعينان على إدراك العلل القياسية فيها، وفَهْم الحكمة الربانية منها. والمتخصص الشرعي التقليدي لا قدرة له على إدراك خلفيات هذه الحوادث المتجددة اليوم؛ فهو أبداً يدور إما في حلقة الجمود أو حلقة النزعة للخروج عن النصوص الشرعية بحجة التطور، والتحرر من النص الشرعي ظلم وافتراء بيِّن.
فالنصوص الشرعية متطورة تطوراً ربانياً، فالله عالم الغيب هو من أنزلها ووضعها، وجعلها صالحة إلى يوم القيامة. وتنزيل النصوص الصحيح على الحوادث المستجدة يجب ألا يكون صعباً؛ لأن الدين للناس عامة. ولكن سهولة تنزيل النصوص الشرعية على الحوادث المتجددة مشروطٌ بكون المسلم يدرك ماهية الحوادث المستجدة وخلفياتها العلمية حقيقة لا خرافة؛ لذا فهي تصعب على المتخصص الشرعي التقليدي، الذي إما جمد الدين في صورة محرفة عن السلفية، أو جعل من نفسه مشرِّعاً عن الله كأصحاب فقه المقاصد والأقليات.
لذا، العالِم الشرعي يجب أن يكون هو الطبيب الذي يدرك حقيقة الحوادث المستجدة في الطب، وهو الاقتصادي، وهو الفلكي والمهندس والإعلامي والسياسي، الذين درسوا الشريعة باستقلال فكري؛ فهؤلاء هم من يجب أن يُفتح لهم باب التخصصات الشرعية العليا وبرامجها دون غيرهم، وهؤلاء هم أكثر علمية وأقدر فكراً وتحليلاً من الشرعيين التقليديين. وما نراه اليوم من عجز هؤلاء العلماء في التخصصات الإنسانية والتقنية من فَهْم الدين والأحكام الفقهية ناتج من دعوى التخصص الشرعي والقدسية التي أحاط الشرعيون بها أنفسهم؛ فبهذا تجمد وتعطل فكر هؤلاء الأطباء والاقتصاديين والقانونيين والإعلاميين وغيرهم أمام العلوم الشرعية، وهي أسهل بمراحل كبيرة من تخصصاتهم التي برعوا فيها؛ فتراهم لا يفهمون أحكام دينهم في تخصصاتهم إلا عن طريق «المتخصص الشرعي» الذي هو في الأصل غير قادر على فهم التخصصات العلمية الحديثة. والمدرس غير المتمكن لا يُخرِّج إلا طلبة حيارى، لا هم الذين تعلموا علماً صحيحاً، ولا هم الذين تُركوا على الفطرة ليفهموا دينهم فهماً صحيحاً. كما أن العلماء في التخصصات الإنسانية أقرب للحياد ممن صنعته الصنعة الشرعية، الذي قد يكون تخصصه الشرعي قيداً على حريته الفكرية واستقلاليته وأمانته.
والمسكوت عنه أن الوضع التقليدي للتخصصات الشرعية الحالية في البلاد الإسلامية بفصلها عن العلوم الدنيوية هو في الواقع إتمام لعملية فصل الدين عن الحياة بالكلية؛ لنصبح كحال الغرب وكحالهم في تخصصاتهم الشرعية؛ فهم قد مروا بالمراحل نفسها التي مررنا بها، ونمر بها اليوم.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem