|
الجزيرة ـ د. حسن الشقطي:
تنقسم الفرص الاستثمارية على نفسها إلى فرص لسلع ضرورية إستراتيجية للدول وللأفراد، وفرص لسلع ضرورية لحياة الفرد، وأخرى فرص لسلع كمالية، ورابعة فرص لسلع ترفيه.. ويعتبر هذا التقسيم ذا أهمية كبرى لتوصيف الطلب على كل منتج وتحديد هل هو طلب أساسي أم طلب محتمل الحدوث؟.. فالطلب على السكر غير الطلب على الكاكاو، رغم أنهما ينتميان للشريحة الغذائية، كما أن الطلب على السيارات مختلف تماماً عن الطلب على الدراجات.. أكثر من ذلك، فإن الطلب على قطع غيار الطائرات مختلف تماماً عن الطلب على قطع غيار الأتوبيسات.. وهكذا، ويعتبر الدواء من السلع الضرورية الإستراتيجية ذات الطبيعة الخاصة، سواء للدول أو للأفراد، فالأدوية لا يمكن الاستغناء عنها، كما لا يمكن استبدالها في أحيان أخرى، بل تقل فيها البدائل المتاحة بشكل كبير، نظراً لارتباطها بوصفات طبية مجبر الفرد على أخذها على علتها بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.. ويمتلك الدواء كسلعة جموداً في مرونة الطلب، فالطلب لا يتحرك مع السعر في معظم الأحيان، فالإنسان سيضطر لاستهلاك الدواء المحدد بالوصفة الطبية مهما كان سعره، وقد يسعى لجلبه –إن كان يمتلك القدرة المالية- من خارج الدولة التي يقيم بها. رغم كل هذه المزايا، فإن سوق الأدوية مهمش عربياً وبشكل ملفت للنظر، فلا يوجد الاهتمام الاستثماري الكافئ به.. فحتى رغم الطفرة الصحية التي طرأت على القطاعات الصحية في هذه الدول، فإن الإنفاق الصحي بدول مجلس التعاون على سبيل المثال تحرك من فتات قليلة إلى ميزانيات ضخمة أصبحت تنافس الاتحاد الأوروبي.. إلا إن هذا الاهتمام لم ينعكس على قطاع الأدوية بالشكل المطلوب.. فالدول الخليجية لا تزال تستورد أكثر من ثلثي احتياجاتها من منتجات الأدوية والصيدلة، بل تعتبر الأدوية أحد أبرز العناصر الضاغطة على موازينها التجارية.
سوق الأدوية بالمملكة تعتبر المملكة من أكبر أسواق الأدوية بالمنطقة العربية، حيث تستهلك حوالي 65% من واردات سوق دول الخليج. وتستورد المملكة احتياجاتها من الأدوية من غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. والأخيرة تمثل حوالي ثلث واردات الأدوية للمملكة. وطبقاً لتقرير اتحاد منتجي الأدوية العرب في 2009م التابع لجامعة الدول العربية، تحتل السعودية المركز الرابع في إنتاج الأدوية، حيث بلغت قيمة إنتاجها من الأدوية 3.4 مليارات ريال فى عام 2008م (آخر بيان متاح). وفي نفس الوقت بلغت واردات المملكة من المنتجات الصيدلانية والدوائية حوالي 12.6 مليار ريال في عام 2010م، أي أن حجم الاستهلاك المحلي من الأدوية بالمملكة يصل إلى حوالي 16.0 مليار ريال. وتصل فيه مساهمة الناتج المحلي إلى حوالي 21.3% فقط، أي أن المملكة تستورد ما يناهز ثلاثة أرباع احتياجاتها من الدواء. تقييم الطاقات الإنتاجية الدوائية حتى نهاية الربع الأول من عام 2012م، يوجد بالمملكة حالياً 24 مصنعاً منتجاً بقيمة تمويلية تصل إلى 3.7 مليارات ريال، في المقابل يوجد 37 مصنعاً مرخصاً لم تنتج بعد بقيمة تمويلية تصل إلى حوالي 792 مليون ريال. ولو افترضنا تشغيل كافة المصانع المرخصة، فمن المتوقع أن لا تغطي الاحتياجات الاستهلاكية المحلية المطلوبة، ويبدو أن غالبية الكيانات الصناعية المرخصة هي مصانع أو معامل من الحجم الصغير والمتوسط، ومن الواضح أن هذه التراخيص تتجه لمجالات تصنيعية بسيطة في المجال الدوائي، بدليل أن متوسط القيمة التمويلية للمصنع الواحد تصل إلى حوالي 21.4 مليون ريال، وتعتبر قيمة متدنية لتكلفة مصنع متطور للدواء. أيضاً من الواضح أن الاستثمارات الجديدة في مجال الدواء لا تزال مجالات غير متخصصة بالشكل المطلوب، ومن المتوقع أن تقوم بتغطية تصنيع المنتجات الدوائية شائعة الاستخدام. وليس من المتوقع أن يكون بمقدور الاستثمارات الجديدة (التراخيص) تغطية كافة الاحتياجات المطلوبة بالسوق المحلي، بل يتوقع أن لا يكون بمقدورها الوصول بالطاقات الإنتاجية المحلية سوى لتغطية نصف المتطلبات المحلية خلال السنوات الخمس المقبلة.
فجوة الدواء
ستظل هناك فجوة سوقية في قطاع الدواء بالسوق المحلي، بل يتوقع أن تتزايد هذه الفجوة من عام لآخر، مع التزايد المستمر في عدد السكان، ومع التحسن في مجال خدمات الرعاية الصحية بالسوق المحلي، بل تتزايد مع تزايد مستويات الدخول، وتزايد اهتمام الأفراد بصحتهم بالمجتمع المحلي. أيضاً تتزايد فجوة الدواء نتيجة التحول في نمط استهلاك الدواء بسبب التحول الذي طرأ على معدلات انتشار الأمراض. فقد أدى التوسع العمراني وارتفاع نصيب الفرد من الدخل في المملكة إلى استهلاك الوجبات الغذائية غير المتوازنة وأسلوب حياة أكثر راحة، ما أدى إلى تفاقم انتشار أمراض نمط الحياة مثل السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية. ومما يذكر أن متوسط تكلفة علاج الأمراض التي تتعلق بنمط الحياة أعلى من تكلفة علاج الأمراض المعدية وهذا سينعكس على تزايد الطلب على صناعة الدواء. أما العنصر الأهم، فهو أن المملكة تسعى للاستحواذ على موضع الريادة في أن تكون موطنا ًلتركز تجمعات الخدمات الصحية الراقية على مستوى منطقة الشرق الأوسط، فقد انتشرت فيها مؤخراً العديد من المدن الطبية الكبرى والكيانات الصحية العالمية، بشكل يتطلب بناء كيانات صناعية دوائية من الحجم الكبير، يمكن أن تكون بؤرة انطلاقة للتصدير للمنطقة العربية ككل. ولعل المستقبل القريب سيوضح أن فجوة الدواء بالمملكة ستتمثل جوهرياً في الاحتياج لاستثمارات ضخمة من النوع الكبير، ولعل من أهم ما يعيق استثمارات الدواء اشتراطات الفرانشايزات العالمية للدواء (وخاصة من أوروبا وأمريكا) عدم التصدير للمناطق الأوروبية واليابانية والأمريكية. إن التساؤل الذي يثير نفسه.. أين سوق الأسهم من تمويل هذه الاستثمارات الهامة والإستراتيجية؟ ولماذا عدم الإقدام على تأسيس شركات تصنيع أدوية من ذات الحجم الكبير؟.. بل ما هو أهم، من بمقدوره دفع وتوجيه السيولة المحلية تجاه المشروعات الإستراتيجية الكبرى؟.. وهل ستظل توجيهات هذه السيولة تسير عشوائياً ناحية المشروعات التقليدية في كثير من الأحيان؟.. فقطاع مثل التأمين تضخم بالعدد وبالقيمة، رغم أنه قطاع خدمي يتنافس فيه الجميع على التأمين الطبي، فلماذا لم يتجه هؤلاء مثلاً لتصنيع الدواء الذي يمثل العنصر الأكثر أهمية داخل التأمين الطبي؟.