إن المخاوف الأمنية جزءٌ لا يتجزأ من وجود بلدان العالم نفسها.
وإذا صحّ أن انتحار الاتحاد السوفياتي، ككيان سياسي، جاء نتيجة علل داخلية، فهذا لا يُقلّل من أثر الفناء السوفياتي في توكيد محدودية الثبات، الذي يُمكن التعويل عليه اليوم، في النظر إلى البلدان والأوطان والكيانات.
ولئن شكّلت الحروب الحدودية والإثنية، ومعها الهجرات، وأعمال التطهير، العرقي والطائفي والمذهبي، وعمليات التهجير الجماعية، في إفريقيا وفي غيرها، روادع أخرى تمنع الاطمئنان الساذج إلى الحصانة الأمنية المطلقة، فإن بلداناً مليونية، كالهند وباكستان، ترى كلّ منهما في الأخرى تهديداً وجودياً لها، خصوصاً أن امتلاك القنبلة النووية أصبح جزءاً من لوحة العلاقات بينهما.
بلغة أخرى:
إن العلاقات الدولية الآن تحتمل الغموض والحيرة، أو العيش بين أحضانهما، أكثر مما تحتمل الوضوح الساطع.
وكم تصحّ هذه المعادلة مع انكماش الصراع الدولي الكبير، والاستعاضة عنه، بعد انتهاء الحرب الباردة، بما لا يُحصى من حروب صغرى، تعيشها البلدان غير التاريخية.
إن الحروب الصغرى التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، منذ أكثر عام، وما يجري الحديث عنه من تغييرات في الخرائط الجيوبوليتيكية، والخرائط الديموغرافية، يرمز، بوضوح، إلى أنه ليس أكثر هشاشة من الدول، على المستوى العالمي، غير هشاشة الاطمئنان إلى احترام الدول لعلاقاتها واتفاقياتها، بعضها مع بعض، ما يعني أن كل دولة، مهما بلغت من القوة والسطوة والمناعة (وتفكّك الاتحاد السوفياتي مثال ساطع على ذلك)، يُلازمها شعور بتلك الهشاشة، مُقيم وبعيد الغور. وهذا ما يحدو بها إلى البحث الدائم عن ضمانات لوجودها وبقائها، سواء اعتمدت في ذلك على قوتها الذاتية، أو احتمت بالعهود والمواثيق والتحالفات، بكل أنواعها.
هذا، مع العلم أن الدولة، التي هي أرقى نظيراتها من مؤسسات التنظيم الاجتماعي الإنساني، هي التي يُمثّل وجودها، بإطلاق، أمرا مُعطى مُسلّما به.
ولو كانت الحياة بين الأمم آمنة هنيئة، لما وُجدت، أصلاً، الحاجة إلى الجيوش والصناعات الحربية. ولما قامت التكتلات والأحلاف. وهذا في حكم البديهي، الذي قام منذ سحيق الأزمنة، ولا يزال حتى يوم الناس هذا.
الدول، إذن، هي ذئاب الدول. أو هذا ما يُمكن أن يرقى إلى قاعدة تحكم العلاقات في ما بينها. فكل دولة تعيش (وعليها أن تتفاعل مع أزماتها وتتقاسمها مع جيرانها، على الأقل، من الأصدقاء والأعداء) مع هاجس عميق دائم باحتمال تدميرها أو فنائها، مُعتبرة ذلك مُلازماً لوجودها نفسه.
اليوم أكثر من أي يوم مضى، القارات والبلدان والعوالم «تُخاط»، من جديد، إذا استعرتُ صورة من أبي العلاء المعري.
Zuhdi.alfateh@gmail.com