لقد أثارني -وأظنه أثار الكثيرين غيري- وشعرت بالمرارة مما قرأته في الأخبار (صحيفة الجزيرة في 23-5-1433هـ) عن إلغاء شركة الخطوط الجوية الألمانية (لوفتهانزا) لتذاكر الراغبين في السفر إلى إسرائيل للمشاركة في حملة تضامنية مع حملة تضامنية مع
الفلسطينيين،وسيلحقها شركات أوروبية أخرى، وذلك (بعد قيام إسرائيل بممارسة الضغوط على هذه الشركات). الإثارة في الخبر ليست من جراء رغبة إسرائيل في منع قدوم هؤلاء، فهذا ليس أول ولا آخر ولا أكبر شيء مارسته إسرائيل لحرمان الفلسطينيين من أي مساندة دولية. فإسرائيل تمارس ضغوطاً أكبر وأشد أثراً من خلال جماعات الضغط الصهيونية التي تملك من وسائل الإعلام ومراكز النفوذ وموارد الاقتصاد ما يجعل أعتى الدول تلين تحت ضغوطها - لاسيما حين تستدر العطف بمعاناة اليهود من مسألة (الهولوكوست) ومعاداة السامية. مصدر الإثارة هو سرعة استجابة مؤسسات تجارية كبيرة لهذا الضغط - سواء كان ذلك خوفاً من تهمة اللاسامية أو من مقاطعة مراكز الاقتصاد التي يديرها أنصار إسرائيل أو بإيعاز من حكومات دول تلك المؤسسات.
هذا الضغط، مهما كانت الآلية المستخدمة أو نوع الابتزاز هو في تأثيره -وإن كان أقوى- مثل المقاطعة العربية في زمن غابر - عندما كان هناك من يناطح إسرائيل رغم تتابع الهزائم. لكن المقاطعة العربية ماتت. أما إسرائيل فهي تمارسها بفعالية وآخر مضحكاتها قرار وزير الداخلية الإسرائيلي بأن الروائي والشاعر الألماني الشهير (جونترجراس) -الحائز على جائزة نوبل في الآداب- شخص غير مرغوب فيه وممنوع من دخول إسرائيل. لماذا؟ لأنه نشر قصيدة ينتقد فيها حكومة إسرائيل على تلويحها بشن هجوم على إيران بسبب برنامجها النووي، وهي التي تملك عشرات القنابل الذرية وترفض تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمنشآتها الذرية!
لست -هنا- بصدد الحديث عن قدرة إسرائيل على التأثير بوسائل الابتزاز التاريخي وجماعات الضغط المدعومة بالقوة الاقتصادية والإعلامية، فالأمثلة كثيرة وظاهرة للعيان. لكن الذي يهمني في هذا الصدد هو تلاشي القدرة العربية على التأثير في تعامل دول العالم مع إسرائيل بما يجعلها دولاً مناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني ومشاركة في تبني مطالبه، أو على الأقل مراعية ومتفهمة لحقوقه ومطالبه، بحيث تتخذ مواقفها السياسية في ضوء ذلك.
وعلى الرغم من تملك الدول العربية لوسائل الضغط اللازمة وسبق أن أنشئ مكتب للمقاطعة تابع للجامعة العربية عام 1951م -أي منذ ستين سنة- إلا أن نشاط المقاطعة العربية تضاءل على مرّ السنين حتى صار عديم الأثر. وأسباب ذلك متعددة. منها اتفاقيات السلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وشروط الانضمام لمنظمة التجارة العالمية والتشريعات الأمريكية ضد الشركات التي تستجيب لمطالب مكتب المقاطعة، وتشابك العلاقات بين الشركات العالمية والدول نتيجة للعولمة، وأخيراً عدم التزام بعض الدول العربية بقواعد التعامل مع الشركات المدرجة في القوائم السوداء لأسباب تتعلق بمصالح حكوماتها.
لكن الأسباب الفعلية تتركز في ناحيتين: الأولى عدم اقتناع معظم الدول العربية نفسها بجدوى المقاطعة في ضوء الأسباب المذكورة آنفاً. والثانية عدم أخذ المطالب العربية بجدية واهتمام في ضوء ما يراه العالم من تنافر بين الدول العربية نفسها في مواقفها وانقسام الساسة الفلسطينيين فيما بينهم تاركين القضية الأساسية خلف ظهورهم، وتكبيل إرادة بعض الدول العربية بقيود المعاهدات والاتفاقيات الثنائية.
ولذلك يخطر على البال تساؤل حول إمكانية تفعيل المقاطعة بأسلوب آخر.
فأولاً: يجب أن يرتبط هذا التفعيل بالأوضاع الخطيرة التي أوجدها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وهي على وجه الخصوص تهويد القدس الشرقية وزحف الاستيطان على أرض الضفة الغربية وحصار غزة. هذه الأوضاع الخطيرة ما هي إلا غزو جديد تقوم به إسرائيل بهدف ابتلاع ما تبقى من أرض فلسطين وتمثل تهديداً للوجود الفلسطيني ذاته من خلال حرق مزارع الفلسطينيين وحصار مدنهم وقراهم واستنزاف مياههم وإرغامهم على العيش في معسكرات محاصرة لا تليق بحياة إنسانية شبيهة بمعسكرات الاعتقال سيئة الذكر. يجب إبراز المقاطعة على أنها دعوة لشعوب العالم للضغط على إسرائيل من أجل إنهاء جريمة الاستيطان وتهويد القدس وحصار الفلسطينيين.
وثانياً: يجب تفعيل المقاطعة على أوسع نطاق جغرافي ممكن بحيث تشارك الدول الإسلامية التي تتوحد فيها المشاعر تجاه القدس باعتبارها مقدسة عند المسلمين.
وعندما يشارك العالم الإسلامي في المقاطعة (ودول أخرى صديقة) فإنه يكفي عندئذ مقاطعة المنتجات الإسرائيلية ومنع التصدير إليها وإنهاء أي شكل من أشكال التعاون الاقتصادي والثقافي معها، وإعلان ربط هذه المقاطعة المباشرة بمضيّ إسرائيل في سياسات الاستيطان والتهويد والحصار. ولن تكون هناك حاجة لمقاطعة غير مباشرة -أي مقاطعة الشركات والمؤسسات التي تتعامل مع إسرائيل- حتى لا يفسر ذلك على أنه ابتزاز ويؤدي إلى خلق أعداء بدلاً من كسب أصدقاء.
إن من أهم عوامل نجاح المقاطعة هو إدراك العالم لجديتها ومصداقيتها وأيضاً أهدافها. وهي لا تغني بأي حال عن السعي لكسب ودّ وتعاطف دول العالم. لكن هذا الود والتعاطف يتضاءل -كما تعلمنا الأحداث- إذا برزت مثل هذه المظاهر:
- الفشل في توحيد المواقف العربية وإبراز قوتها وإصرارها.
- الفشل في المصالحة بين الفرقاء الفلسطينيين - وهذا بدوره يضعف الموقف العربي.
- معاملة الدول التي ليست لها علاقة تعاون بإسرائيل بمثل ما تعامل به الدول التي تقيم علاقات قوية - اقتصادية أو عسكرية - أي يجب اتباع أسلوب المكافأة والتفضيل وليس العقاب والقوائم السوداء - خاصة في المنافسات والمشاريع الحكومية.
- التهليل لقتل المدنيين سواء داخل إسرائيل أو خارجها.
- استخدام القضية الفلسطينية كقميص عثمان في تبرير الأخطاء.
- الدعاء على اليهود والنصارى في خطب الجمعية وكل ما من شأنه إشعال نار الكراهية بدلاً من إشعال دور الحق.