كما أشرت سابقا قضايانا المهمة ليست كلها سياسية, كما يظن البعض, أو أدبية كما يرى البعض الآخر, ولا هي كلها جدل مطبوخ حول هويتنا وطنية أو مذهبية, ولا مصداقية الفتاوى، ولا علاقات عولمية ولا قومية ولا محلية خالصة. هي خليط من كل هذه الروافد تصب في تكوين معرفة الفرد وعلمه ورأيه وبالتالي خياراته لانتمائه الفكري قبل أي انتماء آخر.
وواضح أن من لم يتعود التفكير ليصل إلى الحقيقة بنفسه في الصغر لن يستطيع أن يتخذ موقفا من أي قضية في الكبر، إلا باتباع رأي مرجع خارجي يعتمد عليه ويفترض فيه المصداقية.
وهذا يطرح قضية أهم من كل القضايا: هي قضية الأمن الفكري. حيث القضية الجذر بين قضايانا هي من يصدق من؟ ولماذا؟ وماذا يترتب على ذلك؟
نكاد ننسى الحقيقة الأساسية أن كل النظريات قابلة للمساءلة، أن كل البشر قابلون للخطأ مثلما هم قابلون لتصديق المخطئ إن كان بليغا قادرا على الإقناع. ورغم هشاشة المرجعيات القائمة المرتبطة بأفراد يعينون أنفسهم مفسرين للحقائق التاريخية, أو الثوابت الدينية, أو حتى الملاحظات العلمية والتفضيلات المجتمعية العامة, تبقى حقيقة ممارسة مجتمعية محزنة وهي أننا مجموع بشري لا يستطيع حتى الآن تقبل ثقافة التفكير الذاتي كوسيلة للوصول إلى الحقيقة المقنعة.
الإعلام والتعليم يلعبان دورا أساسيا في هذه الهشاشة. و في رأيي أن اتضاح الرؤية والثقة في قدرة المنطق للوصول إلى رأي يبنيهما التعليم والإعلام .. وأن دعامة الأمن العام في المجتمع ككل هي في تدعيم الأمن الفكري !!
وسأوضح ذلك في هذه المقال واللاحق له.
في الغرب حيث التعددية سمة الثقافة المجتمعية الشائعة, تركز وسائل الإعلام عامة على الجانب الإخباري - وإن اتهمت بخلطه بشيء من توجيه الرأي العام بصورة غير مباشرة خاصة في ما يتعلق بالسياسات والمشاركات في ما يحدث خارج الحدود - وتترك مسألة تذوق الأدب والفن واختيار الدين والمذهب خيارا شخصيا.
في الشرق يظل الإعلام يتمسك بمظهر المسؤول عن تفاصيل الإخبار, ولكن تظل مصداقيته مجروحة ومشكوك فيها وما ينقله من تفاصيل أو يخفيه يجعله في رأي الناس مصدراً غير موثوق به فيظل التعليق المتشكك بـ»كلام جرايد» سارياً حول أي خبر. ولا شك أن متابعة العالم في القارات البعيدة من آسيا لأفريقيا مرورا بالشرق الأوسط للبي بي سي ومونت كارلو سابقا والسي أن أن وفرانس 24 لاحقاً يؤكد هذه الملاحظة.
بينما يشك الجميع بما في ذلك المواطنون في نزاهة فضائياتنا!
المجتمعات تمارس ثقافة التعايش مع المتناقضات وتلقين المثاليات وممارسة الأعراف والتقاليد ومحاولة القفز فوق القوانين المفروضة رسميا والمثاليات المعلنة حين تتضارب مع المصالح الفردية والفئوية الخاصة. وحتى وقت قريب, كان المواطن والمسؤول يتساويان في تجاوز القوانين الداخلية, التناقض بين المثاليات المعلنة والتصرف الخاص والثقة بمصادر الإعلام الخارجي. اليوم يسود علاقة التصديق والثقة المطلقة بالمصادر الغربية بعض الشك مبنياً على نظرية المؤامرة و»من المستفيد من تجريمنا» و»الموساد أقدر». وأعترف أنني مثل غيري أميل إلى ما يبرئنا من التهم . المتابع لما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من تهم ونكات يرى بوضوح أن المواطن والمسؤول يتساويان في تجاوز القوانين الداخلية, التناقض بين المثاليات المعلنة والتصرف الخاص .. وكذلك في الثقة بمصادر الإعلام الخارجي - مثل الويكيليكس والإذاعات والفضائيات الغربية، والتشكيك في المصادر الداخلية أو حتى مصادر الجيران. اليوم يسود علاقة التصديق والثقة المطلقة بالمصادر الغربية بعض الشك مبنيا على نظرية المؤامرة و»من المستفيد من تجريمنا» و»الموساد أقدر».
وسأعود لمتابعة الموضوع معكم.