|
عاشت مصر تحت حكم النظام القوي منذ ثورة 1952م، وعرفنا أمن الدولة، وعرف المصريون الخوف من أعماقهم.. وتولَّد لديهم انطباع بالاضطهاد ليس داخل مصر ولكن حتى عند إقامتهم خارج مصر.. فكل مصري كان يشعر أنه مضطهد داخل الدولة الأجنبية التي يقيم فيها، وأن دولته لا تحميه ضدها.. وجاءت الثورة وتنفس المصريون رياح الحرية، وبدا لهم أنهم يجب أن يحصلوا عليها في كل مكان، وأنهم يجب أن يتخلصوا من الظلم الواقع عليهم أينما كانوا.. إلا أن هذه الثورية باتت فوضى وغوغائية ليس بالإمكان السيطرة عليها.
ومن بين الثورية التي سعينا لنشرها هنا وهناك، الشكاوى والقضايا التي رفعها شباب المحامون المصريون الراغبون إما في الحق أو في الشهرة والصيت الإعلامي، والذين من بينهم أحمد الجيزاوي الذي أشعل العلاقات بين مصر والسعودية.. ورغم أن الهدف الظاهر له هو هدف نبيل للدفاع عن بعض المصريين، الذين لا نعرف حقيقة وضعهم القانوني، إلا أن حديثه وتطاوله على الحكومة السعودية جاء صادماً، ثم إن التهجم الفوضوي على السفارة السعودية بالقاهرة أيضاً كان غير لائق وليس مقبولاً بالمرة، وذلك لما يلي:
أولاً: هل وصلنا إلى حد الفوضى لدرجة أنه لم يعد لدينا مؤسسات تدافع عن حقوقنا، حتى بعد الثورة، فكان يُفترض أن تقوم وزارة الخارجية المصرية بدورها سريعاً وواضحاً بصدد الجيزاوي، ليس في هذه الحالة ولكن في حالة كل مصري.
ثانياً: أين السفير المصري؟.. ولماذا كل هذا التخبط في التصريحات بينه وبين قنصل جدة؟ أعتقد لو لعبت السفارة المصرية دورها المفترض كانت أغنتنا عن كل ما يحدث.
ثالثاً: هل يليق بالشارع المصري أن يهين ويعبث مع دولة شقيقة مثل السعودية بهذا الشكل؟ هل من العقل أن نُعادي دولة عربية كالمملكة في هذا الوقت الذي نحن أحوج فيه إلى التفاف كل دولة قادرة على مساعدة الاقتصاد المصري؟
رابعاً: السؤال الأهم، ألا يُوجد جهات فوقية في مصر تخطط للمصلحة الإستراتيجية لمصر؟ ألا يعلمون أن المصريين بالسعودية يحوِّلون سنوياً نحو 24 مليار جنيه مصري؟ ألا يعلمون أن هذا الرقم جزء من تحويلات أصبحت هي المورد المضمون للاقتصاد المصري بعد تعطُّل معظم عجلة إنتاجه؟
خامساً: ثم، ألا يجب أن نكون أكثر احتراماً حتى في تقديم احتجاجاتنا أو تظاهرنا؟ هل هذا الشكل الذي تم الاحتجاج به أمام السفارة السعودية شكلاً لائقاً؟ إننا نفقد به كل تعاطف، فحتى لو كانت السلطات السعودية ترغب في علاج الأمر بعفو أو غيره، فلن تستطيع الآن أمام هذا السيل من التطاول والقصف؟ بل السؤال: من هم هؤلاء القلة؟ وما هي انتماءاتهم؟ ومن يموِّل هذه الضغوط والكراهية لدولة عربية كالمملكة؟ فحتى الاحتجاج يجب أن نتعلم أخلاقياته!
سادساً: ألا يدرك المسؤولون المصريون أن دول الخليج الآن تتوحد في صف واحد، وأن خلافاتها مع مصر يمكن أن تنسحب على خلافات مع كافة دول الخليج، وبالتالي، فإن العمالة المصرية في دول الخليج كلها مهددة بمشاكل ليس لها أي مرتكز.. لا أقول الحكومات الخليجية، ولكن ماذا إذا خرجت علينا شركات خليجية (وعلى رأسها شركات سعودية) وطردت عمالتها المصرية انحيازاً للأحداث الفوضوية لقلة من المصريين ضد السفارة السعودية؟
سابعاً: بصفتي مصرياً مقيماً بالسعودية، وبصفتي قمت بزيارات لعدد من الدول الأجنبية، فهناك سلوك ملفت للنظر يهيمن على أكثر من نصف المصريين بكل الدول الأجنبية عموماً، وهو «الشغب» فهؤلاء مشاغبون بطبيعتهم بالخارج، وبخاصة أن تركيبة العمالة المصرية بالخارج دائماً تتركَّز في سنّ الشباب، وما يؤكد ذلك أنه بشكل دوري نسمع عن قتلى وسجناء مصريين في دول أجنبية عديدة، كان آخرها مصرياً مقتولاً باليونان وآخر ببريطانيا وثالث بالبندقية ولبنان وسوريا وليبيا وحالات بالمئات.
ثامناً: البعض يتحدث عن مشاكل للجالية المصرية بالسعودية، ولكني أذكرهم بأن هذا الأمر ليس خاصاً بالمملكة، ولكن المصريين بغالبية الدول الأجنبية لهم مشاكل وقضايا، فاليونان وإيطاليا وبريطانيا والإمارات والكويت وتايلند وليبيا والعراق ولبنان و..... لا أجد دولة لا تُواجه فيها الجالية المصرية مشاكل.. والسؤال لماذا تضخيم الحديث عن مشاكل المصريين بالسعودية، لسبب واحد: لأن المصريين بالسعودية يمثلون العدد الأعلى؟ فالمصريون بالسعودية يتجاوزون المليون مصري، ولكنهم في إيطاليا مثلاً لا يتجاوزون 90 ألفاً.
تاسعاً: ثم إن القضايا الظاهرة على سطح مشكلات المصريين بالسعودية هي ما بات قضايا كافة العمالة الوافدة بالمملكة، وبالتالي فلا توجد خصوصية أو تعنُّت في تعامل المملكة مع المصريين.. كما أن كل مصري يأتي إلى المملكة بخياره وهو يعلم أن هناك كفيلاً، وأن هناك نظاماً صارماً في العمل، ولكن في الواقع يصطدم كثير من المصريين عندما يأتون ويجدون أن العمل هنا يعني عملاً، وليس عبثاً.
عاشراً: ينبغي معرفة أن المصريين من أكثر الجنسيات الممنوع دخولها إلى كثير من الدول الأجنبية إلا بتأشيرات مشددة، وغالباً ما ترفض كثير من الدول الأجنبية دخولنا إليها، نظراً لتكرر تهرب المصريين داخل هذه الدول وإقامتهم بشكل غير نظامي.. إنه الواقع والحقيقة التي يجب أن توضع إستراتيجيات مصرية عليا لعلاجها.. ومن يريد التأكد فليذهب للحصول على تأشيرة دخول لأي دولة أوربية أو للولايات المتحدة.. أول مطلب سيُواجهه: كم رصيد حسابك الجاري؟
بكل وضوح لقد أظهرت ثورة 25 يناير عيوباً، كما أظهرت عيوب النظام السابق، أن المشكلة الآن في تفاعلنا مع الثورة.. فوضى وتطاول على الطرف الآخر مهما كان قدره.. لقد أفرزت حالة من اللا خوف، عدم السيطرة.. إلا أن هذا الوضع لو استمر فسوف تخسر مصر والمصريون الكثير.
* مستشار اقتصادي بإحدى الجهات السعودية الرسمية
Dr.hasanamin@yahoo.com