من الواضح أن الدور الأميركي على المستوى الدولي بدأ يتراجع وبشكل كبير وخاصة في مجلس الأمن، فمن تفرد للولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء الحرب الباردة والإمساك بأغلب الخيوط التي تحرك السياسة الدولية، إلى دور مهلهل لا ينتج شيئا يوازي ما كانت تفرضه الولايات المتحدة سابقا حقا كان أم باطلا، فقد كانت الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين تجبر مجلس الأمن على إصدار القرار الذي تتبناه، وفي الوقت الذي تريد، وفي بعض الأحيان كان مجلس الأمن بسبب الهيمنة وضغط الأميركيين يصدر عدة قرارات في أسبوع واحد، كما كانت الولايات المتحدة تمنع المجلس من إصدار القرارات التي تتعارض ومصالحها، ولم يحصل أن تجرأ أحد من الأعضاء الدائمين خلال العشرين سنة الماضية على استخدام الفيتو إلا هي رغم أنها لم تستخدمه إلا لأغراض بعيدة عن الحق وعن إرادة المجتمع الدولي وأغلب المرات التي استخدمت فيها الفيتو كان لصالح إسرائيل فقط رغم أن ذلك كان بالضد تماما من الإجماع الدولي، أما الآن فهي (تناضل) من أجل استصدار أي قرار من مجلس الأمن دون أن تكون النتيجة كما تريد، بالإضافة إلى أنها أصبحت أمام تحد واضح جعلها ولأول مرة منذ أكثر من عقدين تحت مطرقة الفيتو الذي بدأ الآخرون باستخدامه مثلما حصل في الفيتو الروسي - الصيني تجاه القضية السورية، وهذا مؤشر واضح على فقدانها الكثير من عوامل القوة والهيمنة التي كانت تفرض بهما إرادتها على الآخرين، وبالتالي نحن الآن أمام تحول حقيقي في السياسة الدولية والتوازن الدولي بعدما تراجع الانفراد الأمريكي وبدأت ملامح قطب أو أقطاب جديدة تظهر، ربما سيكون أحدها برأسين هما روسيا والصين.
إن مرد التراجع الأميركي يعود أساسا إلى خطأين ارتكبتهما الولايات المتحدة هما غزو العراق وأفغانستان، وخاصة إذا ما تلمسنا الفشل الأميركي الواضح في هذين البلدين، فبالنسبة للعراق فإن الانسحاب الأميركي منه نهاية العام الماضي لم يأت نتيجة للأسباب التي يروجها الأميركان من قبيل قدرة العراق على إدارة نفسه كبلد ديمقراطي وأن هذه (الديمقراطية) المتحققة قد جعلت المهمة الأمريكية في العراق تنتهي، وإنما كان الانسحاب هروبا إلى الأمام بعدما فشلت الإدارة الأميركية في تسويق أسباب الغزو، بالإضافة إلى تكبد الولايات المتحدة خسائر بشرية واقتصادية فادحة أجبرتها على الخروج من هذا المأزق بأية طريقة، ناهيك عن الأزمة الأخلاقية التي تعيشها الولايات المتحدة نتيجة ارتكابها هذا الخطأ الذي بات بعض الأميركان يصفونه بهذا الوصف، وخاتمة الفشل أنهم تركوا العراق يعيش أزمات معقدة.
وبالنسبة لأفغانستان فلن يكون مستقبل التجربة الأميركية فيه أفضل حالا مما كان عليه في العراق، فبعد كل هذه السنين من الاحتلال لا توجد في أفغانستان حاليا حكومة قادرة على إدارة البلد بشكل حقيقي، وما زال الجيش الأمريكي وقوات الناتو يتكبدون الخسائر، والميزانية الأميركية تواصل نزيف الأموال للصرف على هذه الحرب، فيما لا تزال حركة طالبان التي كان تدميرها الهدف المعلن لهذه الحرب تتحرك ويتسع نشاطها حتى أصبحت الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية تجاهدان من أجل التفاوض معها.
إذا الفشل الأمريكي في هذين الملفين (العراق وأفغانستان) كانت له تداعيات واضحة على الدور الأمريكي في العالم، فلا يوجد حاليا من يعتقد أن الولايات المتحدة قادرة على فرض ما تريد كما كان سابقا، كما أنها غير قادرة أيضا على خوض حرب جديدة إلا بعد أن تنسى نتائج ما حصل في العراق وأفغانستان وهذا يحتاج إلى فترة طويلة لأسباب عدة، منها حالة الإنهاك التي طالت الجيش الأمريكي والأزمة الاقتصادية التي لم تنته بعد، بالإضافة إلى آلاف المعاقين بسبب حربي العراق وأفغانستان والذين سيكونون عامل تذكير للشعب الأمريكي بنتائج الحروب غير المبررة.