تختزل أدبيات العرب الطمع والجشع في شخصية أشعب وفي آفة النهم الزائد للطعام، ويُخرجون من دائرته الذين تسلطوا على رقاب الناس، وملكوا الأرض والبشر والمال خلال عصور الاستبداد المتوالية في تاريخ المسلمين، وتعود الحكمة الدينية في ذم الطمع لأنه يشعر النفس بحالة الفقر الدائم، وبالتالي يعيشون حياتهم في ركض لا يتوقف، لكنها تحصره في أولئك الذين يلحون في طلب العطاء من صاحب السلطة. فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: “سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: “يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، بينما في العالم الآخر جعل فلاسفة الاقتصاد الحر من الطمع والشعور بحالة الفقر والخوف من الفشل غرائز أساسية في الإصرار على الكسب والبحث المستمر عن الثروة والإنجاز.
الطمع غريزة إنسانية يتحرك من خلالها الناس ويتدافعون بسببها من أجل الكسب المالي أو العلمي، وقد انتصرت الرأسمالية على الأنظمة الاشتراكية بسبب إحياء تلك الغريزة ومنحها الحرية للانطلاق، والسبب أن الأنظمة الرأسمالية المعاصرة توفر للإنسان البيئة المناسبة للكسب والإنجاز، ثم تجعل منه في حالة عمل دائمة من أجل تكوين الثروة المالية والشهرة والإنجاز، لكن الانهيارات الاقتصادية في سوق المال وفي سوق قروض العقارات في الولايات المتحدة وظهور البطالة والفقر في أشكال جديدة أدت إلى مهاجمة الجشع في سوق المال، وإعادة بناء بعض القوانين التي تحد من الجشع غير المشروع، مثل القروض والمضاربات في سوق المال، وبعد التدهور الأخير في الأسواق المالية حاول البعض إعادة القراءة الدينية للجشع والطمع، والذي تعتبره الأخلاق الدينية المسيحية شراً محضاً، لكن فلاسفة الاقتصاد الرأسمالي والسياسيين في الغرب لا زالوا يصرون أن الجشع بؤرة الاقتصاد وشريانه الحي، وأن التطبيقات السيئة للقوانين لا تلغي أهمية الجشع والأنانية في انتصار وتفوق الغرب الاقتصادي.
يتخذ فقهاء الإسلام موقفاً سلبياً من الطمع. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : هكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو ثروة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له إذا لم يحصل، ولأجل هذا المعنى كان يقال: الطمع فقرٌ، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه، وفي المعنى تسويق لليأس السلبي أو للقناعة كما يحلو للعرب أن يطلقوا عليها، ويتناقض هذا القول مع النظريات الاقتصادية التي نطبقها في العصر الحاضر، والتي في مضمونها الحث على تكوين الثروات وتحقيق الإنجازات، وإن كانت لا تحرسها قوانين تجعل من الفرص متكافئة بين أفراد المجتمع.
أدى الموقف الديني السلبي ضد الجشع إلى حصر تكوين الثروات في الأقوياء الذين يفرضون الأمر الواقع على النظرة الدينية السلبية للطمع، ثم يسخرون النظام الاقتصادي لإشباع غريزة التملك والجشع لديهم، بينما جعل الفقراء من القناعة غطاءاً لعجزهم وفشلهم في النجاح الدنيوي، وسبب هذه المفارقة غياب رؤية فقهية تجعل من الطمع والجشع حقا مشروعا للجميع، إذا لم يخالف الإنسان القوانين والتشريعات، وفي نفس الوقت تُحرم على أصحاب النفوذ والمؤسسات التجارية والبنوك سوء استغلال السلطة للكسب المادي غير المشروع، فالاستثمار في المشاريع وزيادة الأرباح يعود بالنفع على المجتمع، لكن الجشع الذي يخرج من عباءة الاحتكار يؤدي لانهيار الاقتصاد، ويزيد من العبودية والفقر والبؤس، وأزمتنا أننا لازلنا نعيش من خلال إما الحيل الاقتصادية أو سياسة فرض الأمر الواقع.
خلاصة القول: إن الطمع ليس شراً محضاً، إذا أدركنا أن الإنسان مفطور على حب الدنيا والمال والشهرة والشهوة، وأن هذه الغرائز تُعتبر محركا ودافعا للناس ليعملوا من أجل إشباع رغباتهم المادية والذاتية، وإذا تم إقرار مبدأ أن الطمع حق للجميع، وأنهم يحق لهم مواصلة الكسب في ظل حقوق متساوية في سباق البحث عن الشهرة والمال والإبداع، فإن الطمع والجشع يدخلان في دائرة الخير المقنن، ولكن إذا كان الطمع والجشع ينحصران في أولئك الذين يملكون النفوذ، ويستأثرون بحق تجاوز القوانين، فإنه يدخل في خانة الشر المحض، لما له من آثار مأساوية، ينتج عنها انحسار للطبقات الوسطى وزيادة في أعداد الفقراء والشحاذين، وتلك آفة الاقتصاد في دول العالم الثالث، وفي الدول التي لا تحكمها قوانين تعلو فوق الناس أياً كانوا.