يردد الكثيرون منّا مصطلح الـ(بيروقراطية) ويعرّفها البعض بـ(الروتين)، على أن الروتين (ROUTINE) كلمة معربة وتعني في اللغة العربية “رتابة”، بينما تعني الـ(بيروقراطية) شيئًا مختلفًا.
مصطلح البيروقراطية ينقسم إلى قسمين: الأول وهو (بيرو) وتعني المكتب أو الديوان، أما الـ(قراطية) فهي كلمة يونانية وتعني السلطة، فهي إذن سلطة المكتب أو الإدارة أو الديوان، وقد ظهرت مع نشوء الدولة الحديثة المؤسساتية لضبط الإدارة والسلطة في نظام إداري أو سلطوي يحكم وينظم تحقيق المصالح العامة بقواعد وإجراءات مقننه وجامدة، لا تستجيب لحراك الذهن والعقل بالخروج عن حدودها أو البحث في صوابها أو تناسبها من عدمه من قبل المنفذ، فهي مفيدة جدًا للنظم الشمولية وأجهزة الجيش والأجهزة الأمنية، إلا أنه وبعد ظهور الثورات الليبرالية والعلمانية في أوروبا والتحول إلى النظام الديمقراطي أصبحت البيروقراطية محل بحث ونقاش حول جدواها وقدرتها قي تحقيق المصلحة العامة في نظم تستمد شرعيتها من الشعب عبر الانتخابات، وفي حين يرى (ماكس فيبر) أن البيروقراطية هي تعبير عن العقلانية في النظام الرأسمالي باعتبارها تشكل المركزية المحورية في النسق والتفاعل الاجتماعي لضبط المسار وتحقيق المصلحة العامة، رأى كارل ماركس أن البيروقراطية كتجسيد للمصلحة العامة هو خطأ يعارض المصلحة الخاصة للأفراد، ويرى أن إضفاء المصلحة العامة لتطبيق البيروقراطية إنما هو خداع يستخدمه البيروقراطيون لخدمة أوضاعهم الشخصية، ولعلنا من الممارسات نلحظ شيئًا من الصحة يدعم ويسند رأي ماركس، والأمثلة كثيرة ولا تحتاج إلى كشف مظاهرها في كثير من الدول غير المتقدمة في النظم والإدارة، فالمحسوبية وتزاوج المصالح التي أفسدت النظم وهتكت حقوق الأفراد ربما عدّت واحدة من أهم دوافع ظهور الثورات العربية بعد أن أفسدت البيروقراطية حياة الناس ويئست الشعوب من الإصلاح، وهو ما تداركته النهضة الأوروبية في القرن التاسع عشر الميلادي، فتحررت طاقاتها وإبداعاتها المكبوتة لتنتج مجتمعات متقدمة وقادرة على تطوير ذاتها بنظم وإجراءات تنسجم وتتناغم مع حركة التطور، بل وأصبحت رائدة في صناعة النظم والإجراءات التي تكفل أمن وسلامة هذا التقدم مع ضمان حماية المصلحة العامة القائمة على تأكيد حماية أمن وسلامة المصلحة الخاصة، في حين ظهر فلاديمير لينين ليؤكد حاجة الحزب الشيوعي للقواعد البيروقراطية لترسيخ الضبط المركزي القوي، وإن كان عاد مرة أخرى لينادي بمحاربة البيروقراطية، إلا أن الحكم الشمولي البيروقراطي حكم الاتحاد السوفييتي لعقود من السنين وشكل قوة جبارة وذات شأن عالمي لكنه بنظامه البيروقرطي لم يصمد أمام النظم الديمقراطية فسقط عام 1991م ليلحق بالركب الديمقراطي في المعسكر المنتصر.
ومن أسوأ مظاهر البيروقراطية ظاهرة (الروتين) المولدة للرتابة القاتلة للإبداع وصعوبة الخروج من المألوف إلى التجدد والابتكار، حتى وإن ظهرت سلبياته وأوجاعه، وهو ما يخلق حالة اللا مبالاة لدى الإنسان تجاه غيره، مما يجعل المصلحة الذاتية والأنانية مقدمة على المصلحة العامة، وأن تستخدم النظم والإجراءات في تحقيق الأغراض الشخصية والخاصة قدر المستطاع ولتصبح الوظيفة فرصة للكسب وتحقيق الذاتية أكثر منها وسيلة لخدمة المجتمع وتحقيق مصالحه، بل إن المنظومة الإدارية بمفهومها البيروقراطي قد تشكل بحلقة متسلسلة من الصلاحيات بين بعض أفرادها عصبة تحمي بعضها بعضًا وتتبادل فيما بينها المنافع والمصالح على حساب الصالح العام، وهذا ما حاربه الدكتور مهاتير محمد في ماليزيا ورجب طيب أردوغان في تركيا، وتحققت بذلك نتائج رائعة، نقلت ماليزيا وخلال اثني عشر عامًا فقط إلى مصاف الدول المتقدمة ونقلت كذلك تركيا وفي مدة أقل إلى مصاف الدول العشرين المتقدمة اقتصاديًا.
وخلاصة القول: إن (البيروقراطية) لا تعني (الروتين)، بل هي أكبر من ذلك، فهي نظام عام وشامل، بينما نجد أن (الروتين) مخرج أو منتج لها، وهذه بدورها تخرج أو تنتج لنا الرتابة وعدم المبالاة التي تخرج أو تنتج بدورها كساد الإبداع وضعف الهمم، الذي ينتج ويخرج لنا في النهاية واقع تتشتت فيه الجهود وتستنزف فيه الأموال وتهتريء فيه المكتسبات وتتزاحم فيه الأسئلة.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni