- فعلُ الخطأ حراكٌ إنساني مألوف، لا منأَى عنه ولا ملاذَ منه، وأتجاوز ذلك إلى القول بأن الخطأَ الناجمَ عن اجتهاد (بوابةٌ) للصواب في كثير من الأحوال، ودليلٌ على أن فاعله (مجتهد) بنيّةِ بلوغ ما يريد أو جزء منه، وقد يتكرر الفعلُ، مرةً أو أكثر حتى يبلغ صاحبُه الهدفَ المرادَ منه صحةً وصواباً.
***
- وبمعنى موازٍ لما تقدم، مَنْ يخطئُ من البشَر بظنٍ سوىَّ فتلك فطرةًٌ إنسانية، وإنْ شابها استثناءٌ، ولا عصمةَ لأحدٍ منه إلا لَمنْ أُوتِي إيْاها من لدن رب العالمين، مِمّنْ اصطفَاهم وحَباهم بالخير والفضيلة.
***
- وللخطأ ضروبٌ وأصنافٌ تكيفّها النواميُس والأعرافُ والمواقفُ الإنسانية:
أ) فهناك خطأٌ مقصودٌ لذاته من لدن فاعله يعاقَبُ بسَببه عقوبةً تتراوُح شدةً أو لينًا تبعاً لعّدة متغيراتٍ من بينها نوعُ الخطأ ودرجته وما يرتبه من ضيْرٍ تجاه الغير في أمنه أو ماله أو عرضه.
***
ب) وهناك خطأٌ يقع نتيجةَ الجهلِ بما يكُّيف ضدَّه من صواب عرفاً كان أو قانوناً، وردع مثل هذا الخطأ يختلفُ من حالة إلى أخرى، تبعاً لظروف عدة زماناً ومكاناً وقيماً:
1) فقد يأخذ الردعُ صفةَ النُّصح الهادئ أو الزَّجر الشاهر أو العقاب الظاهر.
2) وقد يمْرقُ الخَطأُ مسْتَتِراً دون أن يَسترقَ السمعَ إليه أو البصرَ أحدٌ من البشر.
3) وقد يكون سلوكٌ ما في مجتمع معين أمراً مألوفاً لا ينكره العرف السائد في ذلك المجتمع ولا يُعاقِبُ عليه قانُونُه، في حين يُنْكرُه مجتمعٌ آخر ويسن إجراءاتٍ لردعه بحجة أنه غير سويّ فيصبح خطيئة يعاقب عليها القانون، والأمثلة لذلك كثيرة لا تخفى على لبِْ كل حليم!
***
- ويقودني هاجس التفكير حول المنظومة الفلسفية للخطأ إلى التذكير بما قاله الأوائلُ منّا “مَنْ لا يخطِئُ لا يصيب”، وقولُ آخرين “من لا يخطئ لا يعمل”، وأعتقد أنّ في كلا القولين قََدراً غير هيّن من الحكمة والصواب.
***
- وأضيف إلى ذلك القول بأنَّ بلوَغ الصواب في أمر ما لا يعني بالضرورة المرورَ عبْر بَوابةِ الخَطأ الاجتهادي، لكن المحاولةَ التي يسيِّرها الاجتهاد البصيرُ ظناً والسويُّ غايةً قد تتعرض أحياناً لشَيءٍ من الزلل، وفي هذا الحال يجب إْلاَّ نَعتبَر هذا الزللَ نهايةَ رحلةِ الألف ميل!
***
- والأهمُّ من هذا كله في نظري هو إدراكُنا الواعي للخَطَأ نفسه، لأن ذلك يصْرفُنا إلى البحْثِ عن مقوّمات الغَلبَة على ذلك الخطأ، ومن ثم َطرْقُ سبل أخرى لإدراك الصواب، وهذه خطوةٌ مهمةٌ في منظومة الإبداع، إذ ليس المهم أن تخطئ مجتهداً أو تجتهد مخطئاً، ولكن أن تَعرفَ في أيْ من الحاليْن أنك أخطأت، وأن عليك تقويمِ مسار اجتهادِك وصُولاً إلى الغرض الذي تبتغيه أصلاً.
***
- وأخيراً.. هل أدلُّكم على مثَلٍ يمُيطُ لثاَمَ الغمُوض عن بعض ما سلف ذكره، فأقول: إنّ أغلبَ ما تفتَّق عنه ذهنُ الإنسان الحديث من ضروب الكيف الحضاري لم يأْتِ صدفةً ولا يُسْراً، وإنما جاء مُرَّاً وغِلاَباً، وهل كان الرحيلُ المأساوي لصاحب الذكر والذكرى عباس بن فرناس إلاّ ثمن إجتهاد قاسٍ لم يمنْح صاحبَه فرصةَ الاستمرار ليكرَّرَ محاولةَ التحليق في الفضاء!
***
- ورغم ذلك شهد العالمُ بعد موتِه أكثرَ من (عباس بن فرناس) بدْءاً بأخوة (رايت) وانتهاءً بعباقرة الفضاء الذين لم تَثْنِهم إحباطاتُ الماضي عن معانَقِة النجُوم البعيدة و(هتَك) عُذريةِ القَمر قبل أكثر من ثلث قرن، وما يدريك ما يأتي به الغدُ، قريبُه وبعيُده!
***
- وبعد: اللَّهم إننا لا نملك العصمةَ من الخطأ، لأن ذلك فضلٌ إلهي تختص به من تشاء، فامنحنا، يا رب القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، وارزقنا نعمة البصر كيلا يكون الخطأ إحباطاً لنا ينهي توجهنا نحو العمل السويّ، وينزع منا فضيلة الثقة، وهب لنا يارب بصيرة تظهرنا على الخطأ فلا يغلبنا ويصادر منا طموح الإبداع!