|
ترجمة - نايف الراجحي:
قد دفع نجاح إنشاء اقتصاد حيوي ومزدهر قائم على العلم والمعرفة في دول العالم الأول, عدداً من الدول النامية إلى استثمار مبالغ مالية طائلة لبناء مصدر اقتصادي جديد على نمط الاقتصاد العلمي في الغرب. غير أن التأثير السلبي للانتكاس الحالي في الاقتصاد العالمي تسبب لمعظم الدول المتضررة وغيرها من تخفيض الميزانيات والاستثمارات في عدة منشآت حكومية حيوية, ومن ضمنها ميزانيات البحث العلمي حيث شهدت الميزانيات المخصصة للبحث العلمي في كثير من تلك الدول إلى انخفاض حاد خلال الثلاث أعوام المنصرمة.
وفي الواقع هناك شكوك متزايدة بشأن مدى استعداد الحكومات الغربية على مواصلة الحفاظ على التمويل تحسُّباً لوقوع نكسة عالمية اقتصادية جديدة مما أثار مخاوف لدى الدول النامية حول جدوى نجاح استثماراتهم العلمية على المدى القصير.
وتُعد إسبانيا إحدى الدول المتضررة اقتصادياً والتي كانت أيضاً تعد العدة للاستثمار العلمي. ففي عام 2008 وعدت الحكومة الإسبانية آنذاك «بعصر ذهبي» جديد للعلم في إسبانيا من خلال زيادة الاستثمارات في مجال البحث العلمي, إلا أنه وبعد بضع سنوات أجبر ركود الاقتصاد العالمي الحكومة الإسبانية إلى خفض الميزانية المعلنة لعام 2010 كأحد التدابير المتخذة في خطط التقشف.. فاستقبل المستثمرون الجدد الولادة الإسبانية المتعسِّرة للوليد «المجهض» إذا صحَّ القول, بفائق الحذر إذ يرونها كنذير فشل لا مفر منه, بينما في الوقت نفسه ينظر إليها البعض الآخر على أنها فرصة مناسبة لتواصل الاستثمار العلمي.
فعلى عكس إسبانيا فقد استطاعت كرواتيا, البلد الأوروبي الفتي مواصلة زيادة الميزانية المقررة للبحث العلمي.. فقد تم في عام 2006 إنشاء المعهد الكرواتي للتقنية, وهو مركز يهتم بالتعاون وربط الاتصال بين الباحثين وشركات التقنية العلمية والمخترعين الذين يجمعهم تطوير البنية التحتية للعلوم في كرواتيا, وأيضاً تسهيل توثيق الترابط التقني والأبحاث في المنطقة الأوربية. فخير دليل على نجاح الاستثمار العلمي الكرواتي هو الزيادة في الإنتاج العلمي الذي يشهد نمواً متواصلاً منذ عام 2000 كما قيس بعدد الدراسات العلمية الصادرة في جميع التخصصات العلمية.
وبعيداً عن أوروبا فقد شهدت سنغافورة نجاحاً ملحوظاً في الاستثمار العلمي. حيث تم زيادة المبلغ المخصص للبحوث العلمية والتطوير التقني من 6,56 مليار دولار سنغافوري (4.5 مليار دولار أمريكي) في عام 2005 إلى 13.5 مليار دولار سنغافوري (10 مليارات دولار أمريكي) في عام 2010 . فقد مكّن الاهتمام الصادق للحكومة السنغافورية في تطوير البحث العملي وبتوليد اقتصاد علمي قائم على المعرفة مما جعل من سنغافورة عملاقاً علمياً في المنطقة. حيث أدى هذا المجهود الرائع لزيادة حادة وملحوظة في الإنتاج العملي للعلماء السنغافوريين, حيث تجاوز نشر الدراسات العملية في المجالات الطبية العالمية وأيضاً عدد براءات الاختراع العملي التي حاز عليها العلماء السنغافوريون إلى أكثر من الضعف ما بين عامي 2006 و 2009.
ومن المثير للاهتمام والفضول بالاستثمار العملي هو النهج الجريء والقوى للاستثمار العلمي من قبل الحكومة السعودية, والتي كانت مستوحاة من رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لبناء اقتصاد علمي ومعرفي والذي لا يستهدف تنويع المصادر الاقتصادية للمملكة فقط, بل وأيضاً كوسيلة لتدريب وتطوير العلماء المحليين على متابعة الأبحاث التي من شأنها أن تُساهم في تطوير الفرد والمجتمع السعودي.
نتيجة لذلك فقد تم رصد ميزانية كبرى تهدف لتمويل التطور العملي لمجتمع العلماء المحليين في المملكة, فقد استثمرت المملكة في أهم قطاعين لبناء وتطوير المجتمع العلمي ألا وهما: إنشاء البنية التحتية العلمية. على سبيل المثال افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية والتي تُقدر تكلفة إنشائها بأكثر من 10 مليار دولار أمريكي, إضافة لذلك فقد أنشأت المملكة عدداً من مراكز البحث العلمي ومرافق البحوث المتقدمة والتعليم العالي والمعاهد الأكاديمية والمهنية وفقاً للطراز العالمي والتي هُيئت على أحدث التقنيات العالمية, مما يمكّنها من استيعاب النخبة من العلماء العالميين وتسهيل سير وتطبيق أحدث الأبحاث العلمية. أسفر هذا الاستثمار الناجح لإنشاء بنية تحتية متطورة للعلوم والتقنية في المملكة لتصبح الأفضل في المنطقة بلا منازع.
أما القطاع الآخر في الاستثمار فقد كان في القوى البشرية العاملة حيث تم استقطاب عدد من العلماء العالميين الذين نال إعجابهم التزام الحكومة السعودية في تطوير البحث العلمي وتوفير المرافق والمختبرات العملية المتطورة وأيضاً توفير حوافز مالية من قبل الجامعات ومراكز الأبحاث السعودية.
في حين انتقد أحد الكتّاب في مجلة العلوم (Science) الأمريكية في شهر ديسمبر الماضي طريقة الاستثمار بالموارد البشرية في بعض الجامعات السعودية وهي: (جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز) بينما يرى كثير من العلماء العالميين العكس فإنهم يرونها إستراتيجية مجدية وفعالة لاستقطاب العلماء البارزين والذين يساهم طرحهم العلمي في تطوير قدرة البحث العلمي في المملكة.
على سبيل المثال, قال البروفسور ديفيد جانز وهو باحث في مجال علم الفيروسات والسرطان في جامعة موناش الأسترالية معقباً على الموضوع: «بتأكيد أنها ممارسة ذات قيمة علمية عالية إذ إنه يتيح لطلاب الدراسات العالية في الشرق الأوسط فرصة للتفاعل مع العلماء البارزين عالمياً مما يتيح لهم فرصة ثمينة لتزويدهم بآراء علمية قيمة».
هذا وقد أشاد الكثيرون بإستراتيجية الاستقطاب بالحوافز المادية أو العلمية من هذه الجامعات، وأضاف جانز قائلاً: «هي فرصة للعلماء «لرد الجميل» إلى المجتمعات العلمية خصوصاً تطوير العقول الشابة بدول العالم الثالث».
ويُعد استقطاب أبرز العلماء في مجال الطب والعلوم بحد ذاته نجاحاً للجامعتين (الملك عبدالعزيز والملك سعود).. ومن أهم مؤشرات النجاح على المدى القصير هو ارتفاع معدل نشر البحوث العلمية الصادرة من العلماء السعوديين العاملين في تلك الجامعات.
ومن جهة أخرى فإن وجود هؤلاء العلماء سيوفر سواء للطلاب أو العاملين في هذه الجامعات فرصاً فريدة ومتميزة بالمداخلات العلمية والتفاعل الفكري مع علماء حائزين على جوائز نوبل والذي يُعد بحد ذاته فرصة نادرة لا تُقدر بثمن.
إضافة على جميع الفوائد السابقة فإن مجهود الجامعتين أدى إلى تصدرهم في تقييم شانجهاي العالمي لتصبح تلكما الجامعتين من أفضل أول مائتي جامعة في العالم بعد أن كانا في المؤخرة.. وفي تعقيبه على الموضوع قال الدكتور انثني ديلوكا خبير في علوم الصيدلة بشركة (RDDT PTY LTD) ومستشار في تطوير العقاقير الدوائية «بأن مقدرة الجامعتين في خلال فترة زمنية بسيطة لكسر حاجز التصنيف العالمي يُعد ظاهرة مثيرة للاهتمام. لقد أعطت الجامعتان أفضل مثال عالمي لتوضيح الرأسمالية في العلم».
وأضاف قائلاً: «أود بأن أدعو جميع الجامعات حول العالم بأن تحذو حذو جامعتي الملك عبدالعزيز والملك سعود». إن علامات النجاح في مجال الاستثمار العلمي الجديد شجَّع هذه الدول بلا كلل لمواصلة دعمهم لمزيد من الاستثمارات العلمية بغض النظر عن الركود الاقتصادي العالمي مما يدل على استعداد والتزام هذه البلدان لتكون قوة ناشئة بالعلوم والمعرفة والتطوير التقني.
في الختام, وبغض النظر عن الزمان والمكان, فإن الاستثمار العلمي استثمار ناجح وسليم ومن شأنه تواصل المساهمة ليس للأمم المحلية فقط, بل للبشرية جميعاً. أنا كعالم أُحيي وأُهنئ هذه الحكومات لما أبدت من شجاعة وحكمة والتزام لتحقيق الازدهار العلمي العالمي بما فيه فائدة للبشرية في حين تقوم بعض الحكومات بخفض الميزانيات المرصدة للعلوم من أجل الإنفاق لتطوير أسلحة دمار شامل قد تفتك بالبشرية.
وقد أدى الازدهار المعرفي وروح التنافس العلمي الذي تولّد نتيجة هذه الاستثمارات المشرفة ظاهرة جديدة ومثيرة للاهتمام والتي أود أن أسميها ظاهرة «التسلُّح العلمي».
نبذة مختصرة عن الكاتب:
الدكتور محمد سالم الجوفان عالم أسترالي من أصل خليجي.. عالم وباحث في مجال الفيروسات وتطوير العقاقير الطبية, بروفيسور مساعد بكلية الطب بجامعة موناش الأسترالية, عضو زمالة الهيئة العامة لأبحاث الطب والصحة الأسترالية.
نُشر هذا المقال باللغة الإنجليزية في مجلة (Antivirals الجزيرةAntiretrovirals) الطبية الأمريكيه بتاريخ 27/1/2012/2012.