تحدثت الدكتورة حورية عن شيئ من الموسيقى في معزوفة الجدائل، ولم توضح أيَّ موسيقى تعني: أهي داخلية أو خارجية؟.. وقبل المداخلة أُحبُّ أنْ أذكر أن معزوفة الدكتور من الشعر العمودي على منهج البحور العروضية الخليلية المستقرأَة من ألحان العرب، وهذه المعزوفة على بحر المتدارك، وتفعيلته مُتدفِّقة؛ للتوالي السريع بين المتحرك والساكن، وله تسميات كثيرة منها الخبب، وقطر الميزاب، والـمُراعَى في هاتين التسميتين الإيقاعُ المأخوذُ من حركة السير، ومن تقطُّعات الماء من الميزاب في صببه؛ فهو تصفيقة شعبية.. والتصفيقةُ في إحساسنا الصوتي يتوالى فيها المتحرك والساكن، وأذكر أنني وصفتُ صوتَ ما نَنْتَعِله سابقاً قبل هذا التمدين من الخِفاف التي نسميها (تِلِّيكا) بالخبب؛ لأنني أسير بصوت كبحر الخبب؛ إذْ إيقاعه كالإلقاء الذي نجده في وزن (صِدْقاً صِدْقاً، أو عَدْلاً عدلاً)، وهو يتراوح بين (فاعلن) و(فَعْلُنْ)، والأخيرة أكثر، وجعلوا هذا البحر استدراكاً من الأخفش على الخليل، واشتهرت هذه المقولة، وليس هذا بصحيح، بل لاحظ الخليل هذا الوزن،ولم يذكر أنظمتَه العروضية كغيره؛ لقلته في الشعر العربي؛ إذْ استغنوا عنه كثرةً بالرجز، وقد بيَّن أبو الطيب في كتابه مراتب النحويين أن الخليل ذكر هذا الوزن، وَوَصَفَ إيرادَ الخليلِ هذا الوزن بأنه إحداث منه.
قال أبو عبدالرحمن: لم يُحدِث الخليل هذا اللحن؛ وإنما أشار إليه ولم يهتم بتنظيمه؛ لترفع الشعراء العرب القدامى عن سرعة إيقاعه؛ بسبب شعبيته.. وشاهد ذلك أن شعراء العامية لم يهتموا بهذا الوزن في ألحانهم؛ فلم ينظموا عليه كثيراً، وسموه (النَّقَّازِي) وجعلوه لرقص البُنيَّات في الأعياد مثل (هَيْه يبو جْديلةْ)، ومثله:
حِنَّا بنات العربْ
يا زينِ حِنَّانا
وهذا الرقص للبنيات أيام الأعياد أدركتُه في طفولتي في مدينتي شقراء، ويسمونه: (رَدْحاً).. والعرب في جاهليتهم، وهكذا شعراء العامية قديماً لا يهتمون بمثل هذا التَّرف الغنائي، ولاسيما المتسارِعُ إيقاعُه، واصطفوا من بحر الرجز المنظَّم الخارج عن فوضوية المنظومات العلمية ما يقتضي بداهة الكلمة في حِدائهم.. وهم مع هذا حريصون على وِحْدة اللحن؛ إذْ شعرهم الغنائي على قافيتين من وزنٍ واحد، وهم حريصون على التخلُّص من الرتابة بمغايرة قافية الشطر الأول قافيةَ الشطر الثاني مفردةً وحركة.. وحداؤهم كان له لحنان أحدهما سريع الإيقاع إذا مشوا إلى المعركة متحمِّسين، ولا حداء للمنهزم.. والثاني بطيئ الإيقاع إذا رجعوا منتصرين.. أدركتُ هذا من سماعي ألحان الحداء عند العامة الذي هو على هذا البحر من عوامَّ مُسِنِّين؛ فعلمتُ كيفيَّة ما يُغنَّى من السريع والبطيئ.. وقول راكان بن حثلين على هذا الوزن:
يا رَبْعنا ما مِنْ مِطيرْ
جمعينِ والثالثْ بحرْ
من اللحن السريع، وقد أسلفتُ أنه لا حداء للمنهزم ، ولكنَّ راكاناً هنا كان شِبْه مُنْتصِرٍ؛ إذ شق الصفوف، وتخلَّص من الحصار الثلاثي، وهو جمعان على شكل زاوية والبحر؛ فهذا سمعته من كبيري السن بإيقاع سريع كإيقاع المتحمِّسين في الذهاب إلى المعركة.. وسمعتُ الإيقاع البطيئ من كبار السن أيضاً حينما يرجع الغزو منتصراً.. ومن العجيب أن الشيخ جلالَ الحنفي في كتابه المتميِّز عن العروض وصف هذا الوزن بأنه من غرائب البحور، وأنه أمشاج لا يجمعها إطار، وزعم أن ملامح النثر فيه واضحة، ووصف إيقاعه بالتكلف!!.. وهذا إيراد صادر من فراغ؛ لأن تنظيره للعروض بتقطيعٍ بصري لا بسماع غنائي، وقد كرَّرتُ القول بأن كتاب الخليل في موازين الشعر مفقود؛ وإنما تناقله الأدباء مُفرقاً من الخليل وتلاميذه، وهكذا كتابه عن الأنغام الذي قد يُفيد شيئاً عن مقاييس الألحان المستعصية على التدوين قبل اختراع النوتة، وبيَّنتُ كثيراً أن أوزان الخليل عن سماعٍ لألحان العرب؛ لأن اللحن هو الذي ينتح الوزن لا العكس، وبيَّنتُ قابلية الوزن الواحد لما لا يُـحصى من الألحان، وقابلية اللحن الواحد لأكثر من نغمات من جهة المقياس الزمني والترتيب المكاني، وكل هذا أدركته من معاناتي لتجميع أوزان الشعر العامي من ألحانه التي تلقَّيتها سماعاً بأنغام مختلفة في عدد من المناطق.. ووجدتُ أن التقطيع البصري الذي مشى عليه العروضيون، وأن غَفْلتهم عن التجربة الغنائية: هما اللذان صَدَّاهم عن تفسير الزحافات والعلل، والتفريق بين اللحن في وزن (مستفعلن) و(مستفعِ لن)؛ وبتجربتي الغنائية من خلال الشعر العامي وجدتُ أن ما يسمى زحافاً وعلة غير لازمة إنما هو إثبات لِلَّفظ حسب البِنْية العربية الصحيحة، والغناء يتحوَّل إلى ضرورة لحنية بتحريك ساكن، أو تسكين متحرك، أو مد غير ممدود، أو إلغاء المد.. ووجدتُ أن (مستفعلن) تعني وحدة غنائية في اللحن والوزن غير منفصلة، وأن (مستفعِ لن) تقتضي وقفة غنائية خلال هذه التفعيلة؛ وبهذا المنطق وجدتُ أن الوزن الذي غنَّى عليه ابن لعبون قوله: (سقا صوبَ الحيا مزْنٍ تهامَى)، وهو لحن معروف يحذقه أهل عنيزة وغيرهم: لا يقبل هذا اللحن دائماً بسبب التقطيعات النغمية خلال هذا اللحن التي يدركها من يُصغي إليه.. ثم كيف يكون هذا الوزن نثرياً وهو لم يذكر أيَّ معاناةٍ غنائية له حوله، ثم كيف يكون غنائياً وأشهر أسمائه ذات دلالة غنائية كالخبب، وقطر الميزاب، ولمتَّسق، والمتقاطر، والمتداني؟؟.. وأما التسمية بالغريب فتسمية عروضيين لم يعانوا التجربة الغنائية كما سمعها الخليل؛ وأما تسميته بالشقيق فلأنه أخو الرجز في الحداء.. ولكنَّ السذاجة الفطرية عند العرب جعلتهم يؤثرون الرجز على ترف الخبب، وأما المحدَث فتسمية عروضية أيضاً؛ لأنهم لم يَسْبُروا من ألحان العرب سماعاً النماذجَ القليلةَ من هذا الترف الغنائي المتدفِّق على نحو ما ذكرته عن اللحن العامي (النَّقَّازِي).. ومن الملاحظ أن الحداء على الرجز والخبب يقتضي سرعة البديهة، وعدم التأنُّق في القول؛ لأنه غناء تفرضه المناسبة المفاجئة، ولا يَرِد إلا مقطوعات كما بيَّنتُ ذلك منذ أكثر من عشرين عاماً في أحد أجزاء كتابي (ديوان الشعر العامي) الذي عُنيتُ فيه ببعض الأحديات؛ فلعل زعم الشيخ جلال الحنفي نثريته آتٍ من ارتجال الكلمة لا من التجربة الغنائية الأنيقة.. وأما العرضة في الشعر العامي فليست وقفاً على خببٍ أو رجز، بل ذانك هما الأقل؛ وإنما له أوزان كثيرة منها الطويل والقصير تقتضي التأنق والتمهل في القول، ولا يجمعها لحن واحد ولا وزن واحد؛ وإنما يجمعها التسمية لكلمة العرضة، وتجمعها المناسبة؛ لأن هذه الألحان لا تُقال إلا في الحماس أو الابتهاج بالنصر؛ ولأناقة هذا الوزن من ناحية تدفق ألحانه وسهولة معاناته صار هو حمار الشعر على الحقيقة عند شعراء التفعيلة وفي كثيرٍ من الشعر الحديث العمودي ولاسيما عند نزار قباني.. ومعزوفة الدكتور - وغيرها - لا يحتاج إقامة وزنها إلى تقطيع عروضي بصري يُفسد الشاعرية ابتداءً، ولا يحتاج إلى ترسُّم صدَى وزنٍ محفوظ في الذاكرة يجعل القول ابتداءً مُـجرَّدَ نظم؛ بل الترنُّمُ بها يكون بلحن ساذَج بلا آلة ولا تأنٍّ، ويكون ذلك بلحن تبتكره، أو بلحن نأْثِره؛ وذلك هو التغنِّي.. وليكن اللحن المأثور صدىً لِلَحن محمد عبدالوهاب لقصيدة (أيها العربيُّ الأبيّْ جاوز الظالمون المدى)؛ فاللحن والوزن واحد.. ومعزوفة الدكتور بالوصف العروضي الذي كان قالباً لألحان عربية لا نعرفها؛ لأنها لم تُدوَّن بالنوتة، ولا بالتداول الشفهي كبعض الموشَّحات: جاء على بحر المتدارك التام (فاعلن) أربع مراتٍ للشطر الواحد.. وهو بالجمال اللحني يلزم أن يكون ضَرْبُهُ (آخر تفعيلة الشطر الأول) على وزن واحد، وههنا التزم الدكتور (فَعِلُنْ) بكسر العين (///5) (وفاعلن) بالتراوح، ويُحْتمل في باقيه (عروضاً وحشواً) الخبن الذي هو حذفالحرف الثاني الساكن من (فاعلن)، ويحسن فيه بقاء (فاعلن) سالماً، ويُقْبحُ فيه جداً ما يُسمِّيه العروضيون تشعيثاً، وهو حذف العين من (فاعلن) فتصبح (فالن).. أي (/5/5)؛ لصعوبة وقبح الضرورة في ردِّ المفردة إلى (فاعلن) التام وزنه من أجل وِحدة اللحن.. واحتُمِلَ الخبن (///5) لسهولة رده بالضرورة الغنائية إلى الوزن التام (/5//5).. وتضعف الموسيقى الخارجية كلما كثُر الزحاف؛ وإنما تعيَّن الوزن الواحد للضرب؛ لأنه الوحدة اللحنية لكل بيت.. والدكتور راوح في الضرب بين فاعلن التام وفعِلن (///5) الحاصلِ بالطيِّ، وهذا تراوح يؤذي الموسيقار الشَّفَّاف؛ فاللحن يختلُّ حتماً بين (الأزل) و(المنهل)؛ ولما كانت وحدة اللحن في البيت الأول على وزن (فَعِلن).. أي (///5) كانت (المنهلِ) بعده نشازاً؛ فلا يتَّحد اللحن إلا بكثرة الزحافات كالمنهل تردُّها إلى (النَّهلِ)، أو ترد الأزل إلى (المنهل) هكذا (الآزِل) بمد الألف المهموزة.
قال أبو عبدالرحمن: دعوا عنكم ثرثرة العروضيين، ودعوا عنكم سماجات الحداثيين؛ فالغناء الفكري، والغناء الجمالي الخالص (مخصية الفن، أو مجَّانيتُه) لا يكون إلا بوحدة لحنية تُظْهر خصوصية الشعر بين الفنون الجميلة؛ فضرورة العقل تقتضي إثبات الهُوِيَّة لكل فنٍّ.. وأستثني توالي ثلاثة أبيات أو أربعة على لحن واحد مثل (///5) أو (/5//5)؛ فيرتاح السمع وتطرب النفس لِلَحْنٍ استقرت هُوِيَّـتُه، ثم تنتقل إلى وحدةٍ لحنية أخرى مُسْتَقِرَّةِ الـهُوِيَّة.. وهذا يُـحْوج الترنُّمَ الساذَجَ، ويُحْوِج الموسيقارَ الشفاف إلى نَقْلَةٍ عبقرية تصل ما انقطع، وتحتال في إخفاء التباين بين اللحنين كما نجد في عبقريات التَّنقُّلات في مثل: أَقْبَلَ الليل، وهذه ليلتي، والأطلال، وغداً ألقاك.. وهكذا شعر التفعيلة لن يكتسب هُوِيَّةَ الشعر إلا بما ذَكرْتُه من الثبات والنَّقلات، وما عدا ذلك فهو تقطيع بصري معياره الجمالي هو المعيار في النثر الفني.. وأما ما يسمونه قصيدة النثر فبَعُدْاً لها وسُحقاً أن تكون شعراً، والخلط بين الهُوِيات فِعْلُ العابثين.. وكما أن التناوح غير المستقر يُضِرُّ بهُويَّة الشعر في الوحدة اللحنية فكذلك ما يُسمَّى بالقصيدة النثرية قد يُضِرُّ بجمال النثر الفنيِّ من أجل تقطيعه؛ فيكون أَسْوأَ من (بَعْرِ كبش فرَّق بينه لسان دَعِيٍّ في القريض دخيل).. والقصيدة التي لا تتَّصف بالثبات اللحني المطلق، أو ثبات لحني مُؤقَّت ونَقْلَة ذكية يجب أن تسمَّى (القصيدة البَعْرِيَّة) مهما كان سُمُوق جمالها بميزان النثر الفني، ومهما كان جمالها بميزان الموسيقى الداخلية؛ فكل فنٍّ يُريد هويته، وزيد يجزع أن تكون هويته (ليلَى).. وهذه لذعة خفيفة لمعالي الدكتور عبدالعزيز.. وقلت (إنها لذعة خفيفة)؛ لأن البيت الثاني إلى نهاية البيت السادس مقطوعة حقَّقت ثباتاً لحنياً، وهكذا المقطوعة من بداية البيت السابع إلى نهاية البيت الثاني عشر هي ثبات لحني، وتبقى عبقرية المترنِّم أو الموسيقار في إحداث نقلة خفيَّة ذكية تصل ما انقطع بين اللحنين كدبيب النعاس اللذيذ بين اليقظة والغَطِيط!!.. ولي إن شاء الله عودة إلى هذه المعزوفة، والله المستعان.
رسالتان لا شَفْرتان:
قال أبو عبدالرحمن: حسب الترتيب الهجائي للأسماء ابدأ برسالتي لأخي الدكتور حسن الهويمل الذي قوَّى عزيمتي منذ شهر تقريباً بثنائه العطر جزاه الله عني خيراً؛ فنشطتُ بحمد الله على التواصل مع قرائي، والمسلم يُحبُّ ثناء إخوانه في الملة والنحلة؛ لأنها شهادة يفرح بها يوم الجنائز عندما يقال عند الثناء الحسن: (وجبت) يعني الجنة.. بفرح المسلم بذلك في حياته وإن كان يقول في سريرته: (اللهم اجعلني خيراً مما يعلمون، واغفر لي ما لا يعلمون).. ويفرح المسلم بالثناء الحسن من إخوانه في الملة والنحلة؛ ليتعهد نفسه على الاستقامة؛ حتى لا يكون بخلاف ما يثنون؛ ولهذا كان الثناء الحسن عاجل بُشْرى المؤمن.. والعبد الضعيف بحاجة إلى شدِّ أَزْره بعد الله؛ لقلة الموافِق، وكثرة المخالفين الذين تفرقت بهم السبل، وكل معركتي معهم (عَضُّ ريامٍ)؛ لأنني شريكهم في الثقافة، ويعلمون كثيراً من جدي وهزلي، وعندهم بحمد الله يقين بأنيِّ لا أقول ما لا أعتقد سوى (خُشارة) دَأْبُهم إساءة الظن تَعَمُّداً.. وإن كنت أعتب على الدكتور حسن من أجل انقطاع التواصل بالرِّجل؛ فلما عجزتُ عن الأسفار إلى البلدان، وكانت الرياضُ هي العاصمةَ - لا يستغني أحد عن زيارتها ولو لِماماً، وتكثر فيها المناسبات الثقافية التي يُدْعى لها المثقفون -: كان حقاً عليه أن يُجدِّد العهد بزيارتي في بيتي؛ ليتذكر أياماً وليالي قضيتها في بريدة، وكان يرتاد منزلي في الفندق بالفائزية الدكتور حسن مع ثلة من الفضلاء في طليعتهم شيخنا العلامة صالح المقيطيب أحد أئمة النحو وحَفَظَةِ كتاب الله بصوت جميل أخَّاذ متعنا الله وإياه بالصحة والتوفيق دنياً وآخرة .. وكان منهم من يتأذَّى من كميات الثوم التي أُقَطِّعها قطعاً صغيرة وأسفها للتداوي بها، ثم هدى الله بعضهم؛ فصار يشاركني السَّفَّ!!.. وليتذكر تطبيب أخينا السيف قبل أن أُجْريَ عملية الماءِ الأبيض لعيني؛ فكان يقطِّرُ في عينيَّ العسل على أن ذلك وصفةٌ طِبيَّةٌ ذُكِرَتْ له؛ فاستجبت لذلك أُويمات، ولم أستفد شيئاً إلا المعاناة الشديدة لفتح جفنيَّ بعد أن التحامهما بالعسل.
وأما الرسالة الثانية فهي لمعالي الدكتور عبدالعزيز خوجة؛ فقد علمتُ أن التلمود البابليَّ الذي يبلغ عشرين مجلداً سُحِب من معرض الكتاب، وما ينبغي أن يُسْحب، بل يجب أن يُعَمَّم على العلماء والمثقفين وأنصاف المثقفين؛ ولقد كاتبت صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز- رحمه الله تعالى- من أجل أن يتبنَّى ترجمته وطباعته بتشكيل لجنة لهذا الغرض، ووجدت عند سموه الحماس، ثم تراجع سموه لتعذُّر الحصول على النسخ، وَتَكتُّمِ الصهيونية المتنفذِّة في العالم عليها، بل قُتِلَ أحد الذين ترجموا وريقات قليلة من التلمود بمصر.. وبحمد الله تم طبع التلمود البابلي (وهو أهم من التلمود الفلسطيني)، وقد قام رجال لجنة الترجمة جزاهم الله خيراً بعناء شديد، وبذْلٍ سخي حتى حصلوا على النسخ، وترجموها، وعرَّفوا بالتلمود ومصطلحاته تعريفاً يبهج النفس في المجلد الأول.. والتلمود هو اللاهوت الطبيعي الذي وضعه الحاخامات شرحاً للاهوتهم الديني الذي هو في أكثره وضع بشري، وهذا التلمود لا يخرج عن أمور ينبغي أن يقرأها العالَم كلُّه لا العالمُ العربيُّ والإسلاميُّ وحسب؛ فأول تلك الأمور أن التلمود خِزيٌ وعار على اليهود الصهاينة بما فيه من عداء البشرية جمعاء، وبما فيه من نسف القيم (الحق والخير والجمال).. وأمهات الخير ما ثبت يقيناً مما أنزله الله على موسى وداود وعيسى (عليهم وعلى نبينا محمد وسائر أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام) وشهد به ديننا الذي لا يُستطاع صرفه عما هو عليه من حكيم خبير؛ وإنما التبديل والتأويل مُسَلَّطٌ على بعض العقول؛ فالانحراف في الأفهام لا في الدين الذي تولى الله حفظه.. ومن تلك الأمور أن فيه عداء صارخا للمسيحية ولعبد الله ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام؛ فقد بَهَتُوه وأمه عليهما السلام بأقبح التهم مما لا يليق بأنبياء الله ورسله، وديننا شاهد على أنهم حاولوا قتله فرفعه الله إليه، ولاهوتهم المُعْلِنُ العِداءَ شاهدٌ أيضاً على أن خبر الله عن عدائهم لعيسى هو الحق الذي يعتقدونه ويمارسونه الآن.. والنصارى منذ مُضِيَّ قرن تقريباً على نهضتهم في قرونهم الوسطى محسودون؛ لأن المال والاختراع والبلدان الخصيبة بأيديهم، فكادوا لهم بالعمل العدواني في الخفاء كتسميم الآبار.. والمتصفِّح لأجزاء من قصة الحضارة ليول دورانت يجد سلسلة متوالية من الجرائم العدوانية الخفية خلال قرنين متواليين، وهم يخافون قوة النصارى؛ فأعملولهم الكيد فكرياً وعسكرياً؛ فالفكري لسلخ أمم منهم عن الدين إيماناً وتطبيقاً؛ فكان غير مُسْتَغربٍ أن يُعلِن على المَلإ أمثالُ (نيتشة) موتَ الإله تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.. وكادوهم بالعمل العسكري بتدبيرهم السري، ودعمهم المادي، والدَّالةِ باسم المواطنة في كل بلد؛ فَأُسْقِطتْ الأرثوذكسيَّة في الشمال الشرقي الأوربي، وأُسْقِطتِ الكاثوليكية التي عاصمتها الروحية روما وعاصمتها السياسية باريس؛ فأبادت ثورتهم الشيوعية في روسيا وثورتهم الفرنسية ملايين البشر الذين كانوا متمسكين بدينهم، وخرجت أجيال قُدِّمَ لها القانون الوضعي المبني على القانون الطبيعي الشهواني بما فيه من حرية الشهوات والشبهات إلا بشرط أن لا يؤذي أَحَدٌ حرية غيره، وسقطت إمبراطورية المسلمين في تركيا، ومن يقرأ مذكرات الأسد الجريح عبدالحميد رحمه الله تعالى يجده يكتب من دم قلبه عما يحيط به من كيد صهيوني سيفرض عليه القانون الوضعي ويُسقط خلافته، ومن العاملين على التجسُّس عليه ومحاولة تضليله ابن صفدر البهائي القذر الذي جعله الأغبياء علماً من أعلام الإصلاح الذي يفخر به مسلمو العصر (!!!).. وأشرقت أنوار القوة المادية على القارة الجديدة ذات الولايات المتحدة التي عمرت بهجرات من أوربا وغيرها حتى كان السكان الأصليون الهنود الحمر في خبركان، وغمرت البروتستانتية اللوثرية الكالفونية كلَّ بقاعِ الأرثوذكسية والكاثوليكية، ومع هذا كان انتصار الحلفاء مع فيه من ظلم وإذلالٍ واستعمار مباشر أرحم بكثير مما نحن فيه؛ فقد أعلن روزفلت الحريات الأربع، وَوُضِعَ ميثاقُ الأمم المتحدة الذي ينظِّم العلاقات بين الدول.. واليوم تبدَّل كل شيئ؛ فقد تحولت البروتستانتية التي تُسمَّى يميناً نصرانياً إلى يسار صهيوني، وأصبحت الحريات الأربع حبراً على ورق، وحلَّ بديلها الاعتداءُ على الحقوق أيدولوجياً ونفعياً باستثناء حرية يهود في دينهم، فلا يدخلون في مظلة الديمقراطية، وباستثناء حماية عدوانهم في اغتصاب أرضٍ وإبادة شعب.. ومن تلك العناصر أن التلمود ومرجعيَّـتَه من العهد القديم مَعْلَمٌ واضح جدّاً صدرت عنه أبجديات كل الحريق العربي والإسلامي منذ إعلانٍ لا تَقيَّة فيه بأن العدو الآن هو الإسلام بعد سقوط الماركسية وقبيل إعادة البناء لميخائيل غورباتشوف.. ثم توالت الأبجديات التي نراها تنظيراً ثم تطبيقاً حتى تدفقت مخاوف القرن العشرين التي تضمنت ابتلاع العراقوالوعيد بخارطة جديدة للشرق الأوسط، ثم تدفقت كتب الاستعداد للقرن الحادي والعشرين، ونحن الآن نوشك على الدخول في منتصف العام الثاني منه، وقد أصبح عالمنا العربي والإسلامي: عارياً من كل المقومات، مقهوراً في كل نواحي حياته (لا يملك شيئاً من قراراته، ولا يملك وحدة كلمة، ولا يملك جيشاً يحمي به بقعة من أرضه).. ولا يملك المسلمون اليوم إلا إيمانهم الصادق بأنه سيكون منهم طائفة على الحق منصورة ظاهرة إلى يوم القيامة لا يضرهم من خذلهم؛ وذلك بلا ريب بدفع من الله لا بقوة منهم.. ويملكون الإيمان القطعي بأن العُقْبى للإسلام بعد غربته، والله محقق ذلك بلا ريب: إما بكارثة كونية يجعلها الله عقوبة على الباغين، ويهلك فيها جموع مِـمَّن مقتهم الله عقيدة وسلوكاً؛ فتخفُّ المعمورة من هذا الازدحام البشري والعدوى الوبائية.. وإما بنصر من الله لأمة الإسلام، وقد ينصرها الله بمن يُسْلِم من أعداء الملة من أهل القوة المادية كما نصر خلافة المسلمين بعثمان أرطغرل من أعقاب التتار.. وقد تهون على العرب والمسلمين حياتهم، ويرون بطن الأرض خيراً لهم من ظهرها؛ فيتدفَّق الجهادُ الإسلامي تلقائياً على أرضها في القارتين الكبيرتين (آسيا وأفريقيا).. وهما بالمنطق التحليلي النفعي موارد رزق الأعداء وغذاء علمهم المادي؛ فلا يبالي التدفُّقُ التلقائيُّ بهذه الموارد وَيُدَمِّرها ويعيش على الكفاف كما عاش أسلافه، ولا يبالي أن يفنى ثلثاه ليبقى ثلثه، وعدوهم أحرص على الحياة وأشد هلعاً على الموارد الدنيوية، وأشد وجلاً من حرب عالمية ثالثة مبيدة، والمسلمون لن يبالوا بذلك؛ لأن الله يتمم مسيرتهم.. وحين بداية التدفق الذي أسلفته ستتغيَّر المقاييس التي جمعت دول العالم على الظلم الصارخ كما ترون الآن من القريب والبعيد من إعلانِ حمايةِ الإبادة في سورية أو صمتٍ مريب.. ومن تلك الأمور أن في التلمود ومرجعيته ما هو حق بشهادة ديننا، ومنه ما فيه شواهد حق صححها ديننا؛ فهذا يُقَوِّي إيمان المؤمن، ويردَّ الشاك.. ومن تلك الأمور أن أدبيَّاتِ التلمود ومرجعيَّتَه مبثوثةٌ في كتب أعلام المسلمين منذ كتب المُهتدين من أهل الكتاب من أمثال ابن رَبَّن.. ثم في كتب علماء المسلمين منذ الإمام ابن حزم.. إلى الغزَّالي.. إلى القرطبي.. إلى الإمام ابن تيمية.. إلخ.. إلخ رحمهم الله تعالى، ولم يحجبوا كتب أهل الكلام من أهل الكتاب ككتب ابن ميمون وابن كمُّونة، بل ذلك غُنْمٌ للمسلمن لا غرم عليهم؛ لأنهم أقاموا الحجة عليهم مما بأيديهم ما دام السلطان للبرهان.. فيا معالي الدكتور أرجو أن تراجعوا هذا الأمر مع ذوي الاختصاص علمياً ومع من يملكون القرار من المسؤولين أيدهم الله؛ فالذي يظهر لي أن هناك مُحْتسبين أهل خير ينقصهم الخبرة؛ فأوصوا بسحب الكتاب مُهَوِّلين وجود كتاب يهودي في بلاد الحرمين، ولا أعظم من ضررِ رجلِ الحِسْبة الجهول!!.. أَوَلَيْسَ أحقَّ بالسَّحْبِ كتابُ (رسالة اللاهوت) لإسبينوزا اليهودي التي قدم لها في طبعتها الأولى والثانية مقدمةً كُفْريةً صارخةً الدكتور حنفي، وما أدراك ما حنفي؟!.. وهذا الكتاب الآثم مع تِنِّين لايبنتز مع بدايات العقد الاجتماعي لجان جاك روسو هي التي رسَّخت الشهوانية العدميَّة، وسلبت العقل إيجابيته الفكرية بالشبهات التضليلية وذلك هو مجمل الديمقراطية التي أشعلت الحريق العربي الإسلامي.. لا الحرية المعيارية القانونية، والله المستعان، وإلى لقاء قريب إن شاء الله.