مهما كانت الحجج مقنعة لتتمسك بحياة لا تناسبك، أو ترضى بمشاركة إنسان لا تشعر به، فهي تبقى غطاء ثقيلاً، لإخفاء الخوف والجبن من التغيير وتبني المثل القائل (أمسك قردك لا يجيك أقرد منه) حتى لو كُنت تصبح وتمسي في الجحيم.
إلا أن هذا المثل عين الحكمة عندما تتشبث به الشعوب، ولا تدخل في معمعة الإطاحة برئيس، أو حاكماً لصاً كان أو ظالماً على طريقة الجماهير المستثارة، لأن شعارات الحرية الرنانة ستذوب في أنهار الدم، ولأنها أي الشعوب ستعرف في اللحظة الحرجة التي تعم فيها الفوضى وينحر الأمان، أن الثمن باهظ حد الانهيار الذي لا رجعة بعده، وأن الهدم فعل سريع كتتابع خرزات العقد لحظة انقطاعه يصعب تداركه وإيقافه.
وقد قدم غوستاف لوبون مؤسس “علم نفسية الجماهير” تحليلاً ورؤية جلية وخطيرة عن الجماهير، منذ عام 1895م، يحتاج المجتمع السياسي اليوم أن يلقي عليها نظرة عميقة، وكذلك العلماء والمهتمون، في ظل تساقط الدول واحدة تلو الأخرى على يد الجماهير الغاضبة، فبرغم إهمال علماء الاجتماع المعاصرين لأطروحات غوستاف لثلاثة أسباب تطرق إليها هاشم صالح في مقدمته “علم النفس الاجتماعي وفكر غوستاف”، إلا أن التاريخ يعيد نفسه في كل مرة تنهار فيها حضارة ما، ولا عجب أن يكون هتلر وموسوليني من قرائه، وممن استغلوا نقاط ضعف الجماهير بذكاء للسيطرة ومد النفوذ، كيف لا وأهم خصائص الجماهير تتلخص في “ذوبان الشخصية الواعية للأفراد، وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد”، بمعنى أن الإنسان فور انخراطه في جماعة يتخلى عن ملكاته وصفاته الفردية ويصبح إمعة بالمعنى الحرفي، لامتلاكه حين وجوده بين الحشود شعورًا عارمًا بالقوة يتلاشى معه حس المسئولية.
أما عواطف الجماهير وأخلاقياتها كما يصفها غوستاف فهي: “سرعة الانفعال وخفتها ونزقها، وسرعة تأثرها وسذاجتها وتصديقها لأي شيء، وانحسار العواطف بين التضخيم والتبسيط، وتعصبها واستبدادها ونزعتها للمحافظة، ويختم ذلك بأن الجماهير صاحبة نزوات وغرائز شديدة الهيجان، وبالتالي فهي غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية” والطريف المدهش في نفس الوقت أنها لا تدوم وبعد السكرة تأتي الصحوة وقد ضاع كل شيء، والأدهى قدرة المحرض على تهييج الحشود لخدمة أهدافه، ويذكر لنا مثالا “أن جنرالاً في الجيش أصبح شعبيًا فيما بعد، واستطاع أن يسوق مائة ألف شخص للتضحية بأنفسهم من أجل قضيته -يقصد نابليون-”، يصعب اختصار منهج غوستاف في مقال إلا أن له كلمة رائعة يقول فيها: “إن معرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألا يُحكَم كليًا من قبلها، ولا أقول يحكمها لأن ذلك قد أصبح اليوم صعبًا جدًا”، ولأن التواصل بين المجتمعات أصبح سهلاً وبالتالي فإن تجييش الجماهير بات وشيكًا رغم بساطة مطالبها.
amal.f33@hotmail.com