أول الخاسرين من سقوط الأسد هي إيران بلا شك. إيران استثمرت سياسياً الكثير في سوريا وكذلك في حديقتها الخلفية لبنان، ووقفت مع نظامٍ لا يتفق العرب على شيء مثلما يتفقون على كراهيته. أوراق النظام السوري الآن في يد روسيا، فهي التي تقايض عليه، وتساوم جميع القوى في المنطقة وفي العالم متكئة على موقفها من النظام السوري، فأصبحت روسيا (منفردة) هي التي تحمي النظام وبالتالي تملي عليه مواقفه، وخرجت إيران من اللعبة السورية بخسارة إستراتيجية لم تكن تتوقّعها. هذا الخروج أدى بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى أن يُعيد تموضع نفوذه في المنطقة، فكانت زيارته لجزيرة أبو موسى الإماراتية المحتلة في تصعيد متعمّد يهدف إلى إعادة إيران كلاعب رئيس في التجاذبات السياسية في قضايا المنطقة؛ ووصل التصعيد إلى أوج لم تعرفه هذه القضية من قبل، عندما هدَّدت إيران الإمارات علناً باستخدام القوة العسكرية (إذا لم تثن الدبلوماسية مزاعمها بشأن الجزر)؛ رغم أن الإيرانيين يعلمون جيداً موقف الإمارات الثابت والمبدئي من قضية الجزر المحتلة، ويعلمون - أيضاً - أن كثيرين من أبناء الخليج - وكاتب هذا المقال واحد منهم- يعتبرون أن هذا الاحتلال لا يختلف إطلاقاً عن احتلال إسرائيل لفلسطين؛ ودول مجلس التعاون، وكل الدول العربية بلا استثناء، تؤيّد موقف الإمارات وسيادتها على الجزر بلا أي تحفظ، حتى الحزب الإيراني العميل في لبنان (حزب الله) لا يجرؤ على التطرق لمثل هذه القضية، لأنه يدرك مدى حساسيتها عربياً والانعكاسات السلبية عليه إذا ما اتخذ موقفاً مؤيّداً للاحتلال الإيراني لهذه الجزر، لذلك فقد التزم الصمت تجاه هذا الموضوع.
الخطوة التصعيدية في تقديري يبدو أنها مندفعة وغير مدروسة سياسياً بعناية من جانب الإيرانيين وبالذات من حيث التوقيت، وخصوصاً أن تصعيد المواقف مع دولة الإمارات تحديداً سيزيد من عزلة إيران اقتصادياً بسبب الحصار المفروض عليها من قِبل الغرب، وإيران في أمس الحاجة إلى إيجاد وسيلة تكون بمثابة الجسر الذي تعبر من خلاله إلى التعامل مع أسواق العالم؛ وكان بإمكان الإمارات، ودبي على وجه الخصوص، أن تكون هذا الجسر، ليأتي هذا التصعيد فيُحكم الحصار على الاقتصاد الإيراني ويزيد من عزلته.
ويبدو أن هذه الخطوة كان دافعها محلياً صرفاً، فأحمدي نجاد ومن خلفه القيادات الإيرانية المسيطرة على القرار في إيران، يعانون من العزلة الاقتصادية بسبب الحصار، وتفاقم معدلات التضخم، وفقدان العملة الإيرانية جزءاً من قيمتها في مقابل العملات الأخرى، هذا من جانب، ومن جانب آخر خسارتهم الحليف السوري الذي سينسف كل استثماراتهم الإستراتيجية التاريخية في المنطقة، وكما هي عادة المتشددين في دفع قضاياهم إلى حافة الهاوية عندما يتورطون، كما فعلوا عندما هدّدوا بإغلاق مضيق هرمز قبل أشهر بتلغيمه، هم هنا يكررون اللعبة ذاتها، ويصعّدون الوضع مع دول الجوار الخليجي، لنقل الأزمة من الداخل إلى الخارج، بهدف محاصرة معارضيهم وتضييق مساحة المناورة عليهم في الداخل، ودفعهم إلى الوقوف معهم ومع توجهاتهم (مضطرين)، بحجة أن عدواً خارجياً جميعهم يواجهون، فتصبح قدرة المعارضة على المناورة ضيقة؛ وهذا في تقديري هو الباعث (المنطقي) الوحيد لاتخاذ نجاد مثل هذا الموقف المندفع والمتهور وغير المسؤول في هذا الوقت بالذات.
ومهما يكن الأمر فإن خسارة إيران في سوريا، والحصار الخانق الذي تعاني منه بسبب العقوبات، وعزلتها السياسية التي لم تمر عليها قط منذ أن نجحت ثورة الملالي وقفزوا إلى كرسي السلطة، يجعل أحمدي نجاد والتيار الإيراني المحافظ يفقد كثيراً من مؤيّديه، ويؤكّد في الوقت ذاته أن الدبلوماسية المعاصرة لا يمكن أن تقبل الديماغوجيين كنجاد وأمثاله، حتى وإن استقطبوا مؤقتاً أصوات المؤيّدين، فهم في النهاية، وحين يأتي حساب الأرباح والخسائر، سيخسرون حتماً؛ والخاسر سوف ينفضُّ عنه مؤيّدوه في نهاية المطاف.
إلى اللقاء.