قبل ربع قرن لم نكن نحن الصحراويين نتقن الكلام المرتب المتأنق وكنا نحسد إخواننا المصريين والشوام على قدراتهم التعبيرية ولذلك نعتقد أنهم سبقونا في التطور الفكري والتقني إلخ إلخ إلخ. بالطبع كنا أيضا نتكلم في الماضي لكن فيما بيننا وبلهجاتنا المحلية وفي خصوصياتنا المتواضعة ونتهيب من الكلام الفصيح أمام الآخرين لأننا كنا نعتقد أنهم هم الأفهم والأعمق والأسبق وعلينا أن نمشي خلفهم ونحذو حذوهم القذة بالقذة.
لكن السؤال أصبح الآن هو وماذا بعد الكلام؟. أوضاع إخواننا العرب الذين سبقونا في تقنية الكلام لا تدل على أنهم استفادوا كثيرا من تطوير قدراتهم تلك، بل العكس هو الصحيح. مرت عليهم السنين الطوال وهم يطورون قدراتهم الكلامية حول التقدم والتحضر والإخاء والمساواة والعدالة والحرية والاشتراكية وهلم جرا. لكن واقع الحال يقول أنهم مازالوا في نفس المراحل الكلامية والتلاسن المتبادل ولم ينالوا من وراء إنجازاتهم الكلامية الهائلة لا عدالة ولا تطوراً ولا حريات ولا رغيف خبز. بقيت أوضاعهم في مرحلة الوعود والأماني الكلامية بمستقبل أفضل، بينما الأحوال المعيشية والحضارية تنزلق إلى الأسوأ وقد تصل إلى الحروب الأهلية والتفكك.
نعود إلى نفس السؤال بالنسبة لنا نحن الصحراويين.. ماذا بعد الكلام؟ّ! أعتقد أن طلائعنا النجومية في الفنون المكلمنجية التي تحتل الساحات الفضائية والإذاعية والصحفية والعنكبوتية أثبتت أنها أصبحت أكثر من ضليعة في فنون الكلام من كل لون وصنف ونوع. عندما تستمع أو تقرأ للمحسوب على الفكر الليبرالي مثلا ثم للمحسوب على الفكر المحافظ ، أو حتى للمحسوب على الساحة الترفيهية الغنائية والرياضية تكتشف أنهم كلهم يحملون مواهب فذة في فنون الكلام واللف والدوران وبطريقة تجعلك تعتقد أن كل واحد منهم معه الحق كل الحق. المزعج أنك لا تخرج باستنتاج عقلاني أخير قابل لتطبيق مفيد على المستوى المعيشي والتعايشي اليومي. أما حين يتكلم مسؤول كبير في أحد الشؤون العامة مثل الشؤون الصحية أو المالية أو التعليمية والتربوية أو الأوضاع المرورية أو الترشيدية المائية والكهربائية إلى آخر المسلسلات الإعلامية اليومية، فإنك في كل مرة تقفز من مقعدك عاليا وتصرخ: يا سلام لقد فرجت والله، هكذا يكون الكلام وإلا بلاش.
من آخر منجزاتنا الكلام الطويل العريض عن شؤون الفساد الإداري والمالي وما يترتب عليهما وما يتوجب فعله تجاههما من ومن ومن. أصبحت شخصيا أتمنى أننا كصحراويين بقينا على عجزنا القديم في فنون الكلام المرتب المتأنق وطورنا فضيلة العمل بصمت ودون قدرات إعلامية وملاسنات فضائية، يعني مثل الناس في ماليزيا أو سنغافورة أو كوريا أو الصين مثلا. لكن هل تتحمل الصمت شعوب أهم منتجاتها الكلام؟