كان المحور في الجلسة الأولى من جلسات المؤتمر (التظاهرة): “دور أقسام اللغة العربية في الجامعات في النهوض بالعربية وآدابها”. ولقد تَحدَّث في تلك الجلسة تسعة مُتحدِّثين. ومع أن حديث كل واحد منهم له ما يستحقه من التقدير في موضوعه فإن منها ما لا ينطبق مع المحور المذكور تمام الانطباق، ولا أتفق اتفاقاً تاماً مع العنوان الكبير للمؤتمر.
أما الجلسات الثانية والثالثة والرابعة، ومحورها كلها “اللهجات والتأصيل اللغوي”، فالحديث فيها قد تناول قضايا اللغة العربية وتأصيل اللهجات العربية بالنسبة لما هو متعارف لدى أرباب هذه اللغة بأنه الفصيح أو الأفصح. لكن ذلك لم يكن المنتظر، أو المأمول، من لقاء ضَمَّ الكثيرين من الغيورين على لغتهم الفصحى، وهو بحث مقدرة اللغة العربية على مواكبة العصر؛ فالحديث في هذا الأمر شيء، والحديث عن اللهجات العربية بالنسبة للفصحى شيء آخر.
أما الجلسة الخامسة، ومحورها “اللغة العربية ووسائل التقنية والاتِّصال الحديثة”، فهي في قلب ما يفهم من العنوان الكبير للمؤتمر، وهو: “اللغة العربية ومواكبة العصر”. وقد تَحدَّث فيها ثمانية باحثين وباحثة واحدة.
أما الجلسة السادسة، ومحورها: “دور الآثار الأدبية المعاصرة”، فتحدَّث فيها سبعة باحثين. وأول ما يلفت نظر القارئ عنوان ذلك المحور؛ ذلك أنه يبدو غير مكتمل الدلالة؛ إذ لم يذكر المُؤثَّر فيه. والآداب المعاصرة مُتعدِّدة منها ما هو بالعربية وأكثرها بغيرها من اللغات. والمُتحدَّث عنه هو الأدب المكتوب بالعربية وحده. وعناوين البحوث، التي ألقيت ملخصاتها هي: رؤية الطفل في الأدب السعودي، أدب الأطفال وأثره في بناء الشخصية اللغوية، رؤية شعراء الفصحى في المملكة والشعر العامي بين تيارين، إشكالية تجديد البلاغة العربية، أسرار نوع الأداة في الأساليب المتساوية في ضوء السياق النحوي والبلاغي، البلاغة وتحليل الخطاب: دراسة في تَغيُّر النسق المعرفي - تأثير اللغة الإنجليزية على اللغة العربية الإعلامية. ما مدى انطباق ما تُحدِّث عنه تحت هذه العناوين مع العنوان الكبير للمؤتمر، وهو: “اللغة العربية ومواكبة العصر”؟ لكل قارئ إجابته الخاصة. لكن لَعلَّ الأقرب إلى ذلك هو الأخير.
على أن الجلستين الأخيرتين، اللتين كان المحور فيهما: “ هموم اللغة العربية في عصر العولمة”، مُهَّمتان، وقد ألقي فيهما ثمانية عشر بحثا. وكان من الذين كتبوا عن الموضوع كتابة علمية جيدة العالم الجليل الأستاذ الدكتور أحمد الضبيب في كتابه، الذي عنوانه: اللغة العربية في عصر العولمة. وكان من البحوث التي قُدِّمت ما تناول واقع اللغة العربية الفصحى اليوم والأخطار التي تواجهها. ولقد سبق أن كُتِبت كتابات عديدة حول تلك الأخطار. وكان مجمع اللغة العربية في دمشق، الذي أَعتز بكوني عضواً مراسلاً فيه، قد أقام ندوة عام 1424هـ - 2003م تحت عنوان “اللغة العربية في مواجهة المخاطر”. وقد تَحدَّثت في تلك الندوة عن “اللغة العربية بين الواقع والمأمول”. وتناولت في الحديث مكانة اللغة ركناً أساسياً من أركان هُويَّة الأُمَّة، وحرص الأُمم الراقية، ولاسيما الغربية منها، على المحافظة على لغاتها، والدفاع عنها، ونشرها بين أُمم ومجتمعات أخرى، كما تناولت عظمة اللغة العربية، ومقدرتها في قرون خلت على استيعاب حضارات قديمة مُتعدِّدة، وصهرها في بوتقة واحدة لِتقدِّم إلى الدنيا حضارة عظيمة في مسيرة تاريخ الإنسانية فكراً وعلماً وثقافة وإبداعاً. وهذا ما أشرت إلى شيء منه في الحلقة الأولى من هذه المقالة في الأسبوع الماضي. وكان مما أشرت إليه في ذلك الحديث بالمجمع واقع اللغة العربية في الوقت الحاضر، ابتداء من خضوع بعض أقطار أُمَّتنا لسيطرة غير عربية منذ بداية الاستعمار الغربي لها في القرن السادس عشر الميلادي، وكان استعماراً في طليعة أهدافه القضاء على هُويَّة أُمَّتنا ديناً ولغة. ومما قلته: إن كل عربي منصف يُقدِّر لسوريا ما يَتجلَّى في ربوعها من مظاهر الاحترام للغة أُمَّتنا، مثل استخدام كلمات عربية لكثير من المخترعات الحديثة. والأهم هو استعمال العربية لغة تدريس في جميع مراحل التعليم وفي مختلف فروع المعرفة. وقلت أيضاً: إن ذلك الموقف المُوفَّق - في نظري - لم يكن ناتجاً عن تمسُّك بدعائم الهُويَّة فحسب؛ بل عن إدراك بأن استيعاب المُتلقِّي باللغة الأم أعظم من استيعابه بلغة غيرها. وهذا ما تُؤكِّده اليونسكو.
على أن تركيز حديثي في المجمع كان على وضع اللغة العربية في أقطار مجلس التعاون الخليجي، وتناول أمرين واضحين: وهج العامية، وبخاصة في مجال الشعر، في وسائل الإعلام. وجعل اللغة الأجنبية، ولاسيما الإنجليزية، مزاحمة للغة العربية. ومما خلصت إليه بالنسبة للأمر الأول أن الشعر العامي في قلب جزيرة العرب لم يعد موغلاً في عامِّيته المحلِّية؛ ذلك أن اللهجات في أقاليمها تداخلت نتيجة الاختلاط السكاني في المدن الكبرى، وانتشار التعليم، والاستماع والتأثُّر بما تَبثُّه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة؛ فبدأت تسود لهجة شبه عامة دخلتها ألفاظ وتعبيرات فصحى. وإن وجود شعر عامي بغض النظر عن تسميته جنباً إلى جنب مع الشعر بالفصحى واقع ماضياً وحاضراً، وسَيظلُّ - فيما يبدو - مستمراً في المستقبل. وإن مُجرَّد ذلك الوجود لا يُمثِّل خطراً على الفصحى. على أن من المُؤمَّل أن تُتَّخذ خطوات لتشجيع كتابة الشعر بالفصحى، وبخاصة أن كثيراً من الشعراء الشباب مُتعلِّمون ومتخرجون من الجامعات.
أما الأمر الثاني، الذي تناولته في حديثي في مجمع اللغة العربية بدمشق، حول وضع اللغة العربية في أقطار مجلس التعاون الخليجي، فهو جعل اللغة الأجنبية، ولاسيما الإنجليزية، مزاحمة للعربية. وكان مما قلته في ذلك الصدد: “إن جعل إجادة الإنجليزية شرطاً للحصول على الوظيفة موقف يجمع بين وضوح النظرة الدونية إلى اللغة الوطنية.. لغة القرآن الكريم المصدر الأول لدين الإسلام، الذي هو دين غالبية أُمَّتنا العربية.. وعدم مراعاة شباب الوطن.. جيل المستقبل، الذي تزداد حاجتهم إلى العمل كسباً للعيش الكريم، وتزداد حاجة الوطن إلى عطائهم في مختلف وجوه الحياة للنهوض والرقيِّ. في جميع بلدان العالم يحتاج العامل الوافد للعمل فيها إلى معرفة لغتها، ويضطر إلى استعمالها. أما أن يكون المواطن - كما هو واقع في دول مجلس التعاون الخليجي - هو المحتاج إلى معرفة اللغة الأجنبية في بلده، وهو المضطر إلى استعمالها في تعامله مع الأجانب العاملين فيها، فأمر غريب كُلَّ الغرابة.. مؤسف أشدَّ الأسف. بل إن الأدهى والأَمرَّ هو أن الإنجليزية بدأت تَحلُّ مَحلَّ العربية في التدريس. فمن دول مجلس التعاون ما غُيِّر التدريس فيها من العربية إلى الإنجليزية في مختلف كليات جامعاتها، ومنها ما سمح للمدارس الخاصة فيها - وإن كان الملتحقون بها عرباً مواطنين - أن يكون التدريس بغير العربية ابتداء من السنة الأولى الابتدائية.
وفي ضوء ما تقدم - وهو مؤلم أَشدَّ الإيلام - كُتِبت مقالات عدة، بينها مقالة نُشِرت في صحيفة الجزيرة بتاريخ 16-3-1426هـ عنوانها “الجانب الثقافي للأمركة”، ثم نشرت في الصحيفة نفسها مقالة في ثلاث حلقات أسبوعية، ابتداء من 13-6-1432هـ، تحت عنوان “مضايقة اللغة العربية في مهدها”. وبعد ذلك نشرت مقالة في الصحيفة نفسها، أيضاً، بتاريخ 26-4-1433هـ، عنوانها: “التأمرك في مهبط الوحي ومهد العربية”. وأعقبتها، بعد أسبوع، بمقالة عنوانها: “شجون بين الأمركة والتأمرك”.
إن الإعجاب بالأجنبي المُتفوِّق علماً وتنظيماً، والمهيمن سياسة واقتصاداً، في الوقت الحاضر أمرٌ واضحٌ جليٌّ. لمستُ جانباً من ذلك وأنا صبي أستمع إلى الكبار في مجالسهم عندما كانوا يقولون عن الذي يعرف عبارات - مهما كانت قليلة - من الإنجليزية: إنه “يتكلَّم بسبعة ألسن”. ولمسته بعد أن أصبحت كهلاً وأنا أشاهد في التلفزيون حفل مدرسة ثانوية في الرياض كان عريف الحفل فيها طالباً رائعاً في لغته العربية أسلوباً وإلقاء، لكنه لم ينل من الحاضرين ما يَدلُّ على إعجاب بلغته وإلقائه، وفي الحفل ألقى طالب بضعة سطور بالإنجليزية، الله أعلم كم بُذل من تدريبه على إلقائها، فَعجَّت الصالة بالتصفيق إعجاباً به وتشجيعاً له. وما زلتُ وأنا في سبعينيات عمري ألمس ذلك الإعجاب بلغة الأجنبي الغربي. وكل ذلك يحمل في طَيَّاته نظرة دونية إلى اللغة العربية.. لغة أُمَّتنا وطنياً ودينياً. وكل مُتألِّم مثلي يدرك أن تغيير هذه النظرة الدونية إلى نظرة اعتزاز بلغتنا لا يمكن أن يَتمَّ إلا بتوجُّه صادق من القيادة السياسية، يُعبَّر عنه بقرار شجاع، يمنع ما يوجَّه من سهام إلى كيان العربية من جهات مُتعدِّدة، بينها جامعات وطننا، التي أصبحت أن يكون لالتحاق الطالب بها، ونجاحه فيها، أن يثبت قوته في الإنجليزية أكثر من أن يثبت قوته في العربية.