فشلت أوروبا الشرقية في مواجهة غرب أوروبا والولايات المتحدة في مهمة توطين بيئة للإنجاز، وكان العامل الأهم الاستخدام الخاطئ لمفهوم العداله في توظيفها للموارد البشرية، إذ لا يمكن أن تجعل من الإنسان يبحث عن الإنجاز وزيادة الإنتاج في ظل نظام جامد لا يتمتع بالمرونة تربط بين المكافأة والإنجاز في العمل، وكانت النتيجة أن سيطرت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على الإنجازات وبراءات الاختراع، وتخلفت أوروبا الشرقية، ثم سقطت، ولم تستطع ثروات الخام أن تنقذ اقتصادياتها من الانهيار، وكان السبب فرض نظام مكافآت موحد لمختلف المهن، مهما اختلف الإنتاج وتفاوتت قيمة الإنجاز العلمية.
أكتب هذه الكلمات بعد أن طال الانتظار في إيجاد حل عملي ونظامي لسلم الرواتب الموحد لمختلف المؤسسات الطبية في المملكة، والذي تم إقراره تحت إستراتيجية مضمونها تحقيق العدالة، والتي تم استخدامها لتطبيق مفاهيم خاطئة في بيئة العمل، والسبب أن العدالة تحمل مفاهيم مخالفة في بيئة العمل، فالمتخصصون المهنيون يختلفون ولا يستون في قضية تحقيق الإنجاز، ويجب أن تخضع للوائح خاصة بالمؤسسة، على أن تحكمها على وجه الدقة ثقافة الإنجاز، وليس المحسوبية، والإنجاز له معايير تحكمها الإنتاج الجيد والبحث العلمي والتطور في تقديم المهارات الدقيقة، وإذا تم إغفال هذا الجانب وطُبقت العدالة التي تعني المساواة في المكافأة، ستكون النتيجة الخمول والكسل وعدم التطور مع التوقف عن محاولة تحقيق الإنجاز بسبب غياب الحافز.
المؤلم في الأمر أن الأجانب يتم التعامل معهم من خلال ثقافة الإنجاز، فالمبدع غير السعودي ينال مكافأته السنوية وقد يتم منحه زيادة عالية في راتبه الشهري، وذلك بسبب تميزه في أداء العمل، كما أن التعاقد معه حسب خبرته وإنجازاته، أما السعودي فتُستخدم معه نظام المسطرة والعلاوة الموحدة والمساواة مع زملائه، وأن كان يتميز عن زملائه بالإنجاز والإبداع في تخصصه، ومنذ تم تطبيق السلم الموحد، تغير مفهوم الإنجاز إلى الكم والعمل على زيادة الدخل المادي، وتحول المتخصصون إلى القطاع الخاص بحثاً عن التعويض المادي، والذي يهتم بالكم وليس الكيف، وليس الإنجاز من ضمن أهدافه، وستكون المحصلة النهاية انهيار لثقافة الإنجاز بين السعوديين، وبالتالي الاستسلام للواقع، ومن ثم غياب روح التنافس والعمل على تحقيق الإبداع في العمل.
حضانة المنجز في الغرب مكانها المؤسسات غير الهادفة للربح المادي، فالمؤسسات العملاقة في الولايات المتحدة تخضع لأنظمة ذاتية تتمتع بوجود الحافز والمكافآت والعلاوات، وتعيش ضمن بيئة غذاؤها روح التنافس وأكسجينها الإبداع، ولذلك دائما تتنافس تلك المؤسسات على البحث عن الكفاءات المتميزة، ويدخل في ذلك مختلف التخصصات المهنية، فالمنجز في الغرب يعد بمثابة رأس المال الذي ينمو وتزيد ثروته وقيمته في السوق، وصاحب الإنجاز يتم تفريغه تماماً من الركض خلف الربح المادي في السوق، ولهذا السبب على وجه التحديد تملك الولايات المتحدة معظم براءات الاختراع.
في المجال الطبي كان تأسيس مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بمثابة القفزة خارج حلقة الجمود، ومن خلال سيرة المستشفى في تحقيق الإنجاز ظهرت أهمية بناء المؤسسات غير الهادفة للربح والتي تتمتع بالمرونة في لوائحها وفي تحقيق أهدافها الإستراتيجية، وبالفعل حدث الإنجاز بعد أقل من عشرين سنة منذ تأسيسه، وشارك السعوديون في تأسيس العديد من البرامج المتخصصة، ووصل أغلبها إلى مصاف المنجز الغربي، وبسبب هذا النجاح تم استنساخ التجربة جزئيا في مستشفيات أخرى، لكنها لم تكن مستقلة بذاتها، ولكن حدث مزج غير صحيح بين التقليدي الجامد وبين نظام المؤسسة، وقد حدث الاستنساخ على أيدي بعض السعوديين الذي تخرجوا من مدرسة التخصصي.
لأسباب لها علاقة بالبيئة الاجتماعية ولغياب نظام يحمي الإنجاز الوطني، حدث ما لم تحمد عقباه، وبدأت رحلة التراجع، فقد ظهرت على السطح مؤخراً روح غير تنافسية وسلبية، وصل الأمر فيها إلى التأثير على استقلال المؤسسة الطبية العملاقة، وأن يتم إخضاعها لنظام غير مؤسسي، يقدم الخدمة الثانوية وليس المتقدمة، وتم إقرار نظام رواتب يتناقض مع لوائحها، فالممارس الصحي السعودي جُمدت مكافآته، في حين يتمتع غير السعودي بلوائح المؤسسه الذاتية، كذلك تحول بعض الأطباء والممارسين الصحيين إلى مواقع إدارية، وذلك من أجل الهروب من السلم الجامد والموحد، فالفني الصحي أصبح يبحث عن وظيفة كاتب أو سكرتير من أجل الخروج من سلم الجمود، بينما بدأ بعض الأطباء رحلة البحث عن بديل في القطاع الخاص أو بعض المؤسسات التي تتمتع ببعض التسهيلات، وكان الخاسر الموارد البشرية السعودية في المستشفى، لكن الخاسر الأهم هو الوطن.