يحرص بعض البائعين المتدينين على جعل تلاوة القرآن بصوت أحد القراء شعاراً لمحالهم التجارية، وهو أمر أصبح لافتاً للنظر، حيث يستقبلك صوت القارئ الشهير عبدالباسط، أو غيره من القراء المشاهير، حينما تدخل، وتسعد بسماع تلاوة القرآن الكريم، لكنك تفاجأ بأن البائع مشغول مع بعض المشترين، يعرض عليهم بضاعته، ويشرح لهم عنها ما يحتاجون إليه من الشرح، ويتفاوضون في الأسعار بأصوات مرتفعة، دون إنصات للتلاوة، ولا التفات إليها. هنا تشعر بأن تلاوة القرآن الكريم قد وُضعت في غير موضعها. ويحدث هذا في كثير من سيارات الأجرة، وإن كان الإنصات فيها ممكناً إذا كنت أنت الراكب الوحيد فيها.
قلتُ لصاحب المحل التجاري، الذي كان محله مزدحماً بالزبائن، وقد تعالت أصواتهم - كما هي العادة -: لعلك تغلق جهاز التسجيل تقديراً لتلاوة القرآن الكريم. قال: هذا القرآن بركة. قلت: الإنصات إليه هو البركة، ولا يصح - إذا ارتفع صوت القرآن - أن ترتفع عليه أصوات البشر. قال مبتسماً: إنما الأعمال بالنيات. فابتسمت له قائلاً: حبذا أن تغلق صوت التلاوة الآن لتستكمل حديثك مع زبائنك، ولأستكمل بعد ذلك حديثي معك. فتمنّع قليلاً، لكن تأييد بعض الزبائن لكلامي دفعه إلى إغلاق الجهاز على مضض. وحينما فرغ لي قلت له: إنما نرجو بركة القرآن بإنصاتنا إليه، وتدبُّرنا لآياته، وفهمنا لمعانيه، وقد ذكر العلماء أن من أقسام هجر القرآن «هجر التدبر»، ثم سألته: هل تشعر بأن التلاوة بهذه الصورة قد أفادتك، وجعلتك تعيش مع القرآن قلباً وقالباً؟ قال: ليس ذلك ممكناً لانشغالي بالزبائن، لكني استأنس بسماع القرآن. قلت له: زادك الله حرصاً، وجزاك خيراً على هذا الشعور الرائع نحو كتاب الله، لكن اجعل ذلك مع نفسك، فلك أن تستمع حينما يخلو المكان من الزبائن. قال لي: هل هو حرام؟!
قلت: لست مفتياً، وليس المقام مقام فتوى، إنما هو مقام نصيحة، والتحريم والتحليل من عظائم الأمور، والذي أعرفه أن للعلماء في ذلك تفصيلاً، فمنهم من يرى عمومية وجوب الإصغاء في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف، فلا يجوز أن يرتفع على صوت القرآن صوت متحدث، ولا أن يتشاغل عنه المستمع بحديث جانبي، ومنهم من يرى خصوصية الآية للاستماع والإنصات للإمام في الصلاة، وفي خطبة الجمعة، ومن العلماء من يرى الإنصات فرض عين، ومنهم من يراه فرض كفاية، وأذكر كلاماً ثميناً للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - حول هذا الموضوع، فقد وجّه إليه سائل السؤال الآتي: كان مجموعة في السيارة يمشون، وشغل أحدهم شريط قرآن، فهل يجب على الجميع الاستماع؟ وهل يأثم من يتكلم والقارئ يتلو؟ وبعد أن فصل الشيخ آراء العلماء في هذا الأمر قال: أقول للأخ الذي شغَّل المسجل لا تشغله والناس غافلون؛ لأن هذا أدنى ما نقول فيه أنه يشبه من قال الله فيهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، فإذا رأيت من حولك لا يريدون الاستماع لأنهم مشغولون بأي حديث آخر فلا ترفع بينهم صوت القرآن، خشية الوقوع في الإثم، وإذا كنت تريد أنت الاستماع إلى القرآن في هذه الحالة فاستخدم سماعة خاصة في الأذن. وقال الشيخ صالح الفوزان: إن اختيار القول باستحباب الإنصات إلى التلاوة لا يعني التساهل وتعمد التغافل عن الإنصات لكلام الله سبحانه وتعالى حين يُتلى، فالحرص على الإنصات لا بد أن يكون أصلاً ثابتاً في حياة المسلم، والكلام في هذا يطول.
قال لي صاحبي: جزاك الله خيراً، فقد نبهتني إلى ما كنت عنه غافلاً. قلت له ممازحاً: معنى هذا أنني سأحصل على سعر متميز فيما سأشتريه من مكانك هذا؟؟ لكن المبلغ الذي اشتريت به أكد لي أن السعر كان متميزاً بالارتفاع وليس بالانخفاض.
وأقول: ما أجمل أن نعوِّد أنفسنا وأهلنا على احترام تلاوة القرآن وحسن الإنصات إليه؛ لأن لذلك أثراً كبيراً في التدبر والتأثر، وتحقيق أثر القرآن في قلوبنا وعقولنا وأرواحنا.
إشارة: قال عمر رضي الله عنه: فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام.