من طبائع الأمور أن يتعرض المرء خلال يومه إلى ظرف عارض، أو موقف طارئ، يحول بينه وبين ما ينوي القيام به من أعمال ومهمات، ومن المؤكد أن هذا العارض والطارئ سوف يفسد على المرء خططه وبرامجه، أو يؤخره عن الوصول في الوقت المحدد الذي ارتبط فيه مع صديق أو عزيز، فالحياة بصفة عامة هذه طبيعتها، لا تخلو من كدر ومن مفاجآت ومنغصات قد تكون خارجة عن الإرادة حينا، وقد تكون نتيجة إهمال وعدم مبالاة، كل هذه وتلك يفضي إلى إرباك أو إخفاق أو إحراج، لهذا ترى بعضهم يتذرع بأنه لا حول له ولا قوة يتصدى بها للعوارض والطوارئ، ولا يستطيع أن يتغلب على تلك العوارض ويغلبها، أي أن ما حصل له ومنه يعد في دائرة الخارج عن الإرادة، القصد من هذا التبرير إبعاد الذات عن اللوم والعتب الذي يترتب على مثل هذه المواقف التي تثير في نفس المتضرر منها الكثير من الحنق والتوتر والغضب.
لكن الخبرة البشرية المتراكمة تكشف عن أن ليس كل ما يتعرض له المرء في يومه أو حياته خارج عن إرادته وقدرته، صحيح أن بعضهم مما يحصل يعد في دائرة الخارج عن السيطرة، أي أنه ليس خيارا متقبلا مرضيا عنه، لكن الأكثر مما يحصل يمكن التحكم فيه وضبطه وتجنب الوقوع فيه، وبالتالي فإن الزعم بأن هذا خارج عن الإرادة أو القدرة يعد من الكذب الذي غالبا ما ينكشف ويتعرى لكون حباله قصيرة، الكذبة لا توصل صاحبها لمبتغاه بقدر ما توقعه في الكثير من الإحراج والاضطراب، والدليل على ذلك أن الكاذب لا يستطيع أن يعيد وصف الموقف الذي صنعه مرة أخرى وبالتفاصيل نفسها.
والملاحظ في صور التبرير والتسويغ أنها في الجملة تغلف بغلاف من التخيل المتكلف المصنوع بصور لا تخفي المبالغة فيها، لتبدو أكثر إثارة وتأثيرا في وجدان المتلقي كي يقتنع ويوافق على تمرير الموقف المكذوب المصنوع، ويتم تقبله بمنتهى الرضا والتسليم، يتساوى في هذا الموقف الذي لا حول لأحد ولا قوة ولا قدرة على التحكم في حصوله أو منعه، وذاك الذي كان بالإمكان تجنبه والتغلب عليه والتحكم فيه بكل يسر وسهولة.
وللكذاب سمات وعلامات تدل على كذبه، منها أنه يتجنب النظر المباشر لمن يتحدث معه، حيث يبدو نظره زائغا أثناء الحديث، كما أنه يجتهد في تقليل الكلام، لأنه يستحضر الصور والكلمات المناسبة التي تصف الموقف الذي يصنعه، كما يتكلف إظهار نفسه بأنه جاد فيما يقول، ويكرر كلمات التبرير ويعيدها مرات عديدة، ويلقي باللوم على الآخر باعتباره المتسبب في حالة الإخفاق أو التأخر، كما يستخدم أساليب التعميم، حيث يدلل على أنه ليس وحده من يحصل منه مثل هذا السلوك غير المرغوب فيه.
وهنا يتبادر التساؤل التالي، لماذا يلجأ بعضهم إلى الكذب في تسويغ الأخطاء وتبريرها؟ لماذا يستمرئ بعضهم اللجوء إلى الكذب ويضع نفسه في موضع لا يحسد عليه وهو يتصنع تصوير ما حصل له؟ وكيف واجه الموقف الذي حال بينه وبين مبتغاه؟، يمارس الحيل والتدليس على الرغم من أنه يعلم تمام العلم أنه يصف حالة لم تحصل إلا في مخيلته المضطربة فقط.
إن السبب الرئيس الذي عزز هذا السلوك المشين وثبته وجعله سمة تكاد أن تكون ملازمة للعديد من الناس، يرجع إلى عدم تقبل السبب الصحيح الصادق للموقف، فالمتلقي المعني بالتعامل مع الموقف الخاطئ لن يرضى بالتفسير الواقعي الحقيقي الصحيح لملابسات الموقف كما حصلت فعلا، وهذا مما يدفع المتعرض للعارض والطارئ إلى اللجوء للكذب، على اعتبار أن الكذبة سوف تنجيه من التشكيك والتعريض واللوم والتقريع.
إن أنجع طريق للخلاص من استمراء الكذب ودفع الناس إليه، هو تقبل الأخطاء، والبعد عن الانفعال وتعنيف المخطئ، والبحث له عن مسوغات تخفف عنه ألم الموقف وتعزز لديه مواجهة الأخطاء بكل شجاعة وصراحة، والسعي الجاد إلى تلافيها مستقبلاً.